من أولى المفارقات التي ساهمت في إفلاس الماركسيين العرب بمختلف طبعاتهم الانشقاقية ( جميع الأحزاب الشيوعية العربية انشقّت أكثر من مرة ) كانت على الدوام موضوعة الدين..! فمنهم من ماحك، وناور، أو تهرب في أحسن الأحوال من الجهر بالموقف الحقيقي للفلسفة الماركسية من الأديان خوفاً من الانعكاسات المجتمعية السلبية..! ومنهم، من تمركس نصف مركسة أي مع بقاءه أميناً على ما تربى عليه دينياً وورثه بالجملة أو بالمفرق وهؤلاء يشكلِّون غالبية الماركسيين..! ومنهم، من تلطى خلف الضرورات التي تتطلبها بيئته المحافظة من باب التكتيك وهم الذين حسموا أمرهم واعتبروا أنفسهم خارج كل الأديان والتدين ويشكِّلون الأقلية.. ومنهم، من جيء به إلى الحزب البروليتاري عاطفياً أي بالدغدغة الطبقية من دون توفر الوعي المفترض مسبقاً وبخاصة أن معظم الأحزاب الشيوعية لم تضع في أنظمتها الداخلية شرط الإلحاد ولا حتى استيعاب الفلسفة الماركسية..!
لقد بانت هذه المفارقة ساطعة منذ خلت أدبيات وبرامج الأحزاب الشيوعية على مدى نصف قرن من تحديد موقفها الواضح من الدين وكيفية تعاطيها معه حين تغزو السلطة وتقيم ديكتاتوريتها الطبقية المحببة وابنة الأكابر بالرغم من أن مسألة الدين شكلَّت إحدى أهم المعيقات في طريق توسعها بروليارياً واجتماعياً..! لقد استخدم خصوم الشيوعية من قوميين وإسلاميين وغيرهم هذه المفارقة كسلاحٍ مضاد تبين أنه فتاكٌ وحاسم حيث هزم الماركسيون بكل تنويعاتهم إلى غير رجعة وباتوا الآن مشغولين بقضايا لا علاقة لها بالهموم المحلية وهي الأساس والمحك وعلة الوجود السياسي من قبيل مصارعة المتوحشين الجدد كالمحافظين والليبراليين والمتصهينين والعولميين وغيرهم من زمرة الجدد..!
ثم إضافةً إلى ما سبق، فإن الموقف من الدين تمليه بالضرورة الأيديولوجيا الماركسية نفسها بغض النظر عن الجدل البيزنطي حول حالة ماركس العمرية حين كتب حول الدين أي شاباً كان أم ناضجاً…! لقد حسم الرفيق ستالين على سبيل المثال هذه المسألة ( سلباً ) فور انقضاضه الرفاقي على السلطة مرتكزاً إلى سطوته الشخصية وجبروته البروليتاري من جهة.. وإلى هيبة الديكتاتورية الحزبية من جهة أخرى هذه الهيبة الحمراء أتاحت له من السلطات ما لا حدَّ له ولا عد وإلا كيف يحصل أن يعجب به فيما بعد الرفاق القادة من الميلة الأيديولوجية المشابهة أو المستنسخة..!؟
لقد ساهم جبن الشيوعيين وتهربهم بل عجزهم الذي تجلى في انتفاء المكاشفة والصراحة مع مجتمعاتهم فيما خصَّ هذه المسألة الحساسة وخلو برامجهم السياسية من كل إشارة جدية حولها إلى خلط وتشويه والتباسات عديدة في الفضاءات الاجتماعية بحيث انعكست عليهم وبالاً و سلباً وفشلاً ذريعاً..! ومن جهة أخرى، أدى هذا الخلط إلى إلباس العلمانية من لدن الغير ثوباً إلحادياً مستعاراً يعمل العلمانيون اليوم على تفكيكه وتحديد المسافة الفاصلة بين الماركسية والعلمانية..!
أما الحقيقة الغائبة والأكثر فداحة في مسيرة الرفاق الماركسيين، فإنها تتحدد في أن الممارسات الحياتية بشكل عام والسلوكيات اليومية بشكل خاص لمعظم الماركسيين العرب ( والسوريين تحديداً لأننا نراهم على حقيقتهم عن قرب من دون منظار ) كشفت ولا تزال تكشف بكل وضوح وجلاء منقطع النظير عن تدينهم الحقيقي وإيمانهم الصادق وذلك بالضد مما يضمره معتقدهم الأيديولوجي وهم بذلك لم يختلفوا في الحياة اليومية عن دراويش المساجد ورواد الكنائس أيام الآحاد وبالرغم من ذلك فإن هذه الحالة الإيمانية المناقضة لتموضعهم الأيديولوجي لم تشفع لهم ولم تسعفهم أمام مجتمعاتهم المحافظة بل على العكس من ذلك فقد أفقدتهم المصداقية التي لا غنى عنها في العمل السياسي..! إن فقدان المصداقية هذا يعني أنهم ولوا الأدبار إلى غير رجعة بغض النظر عن ضمان حقهم كما كل التلاوين الأخرى في بقاء شرعية وجودهم واستمرارهم في طشت العسل والزبيب الطبقي إلى ما شاء الدهر.
نعم هذا هو واقع حال معظم ماركسيينا مع كل الأسف ولو لم يكن الأمر على هذا النحو فكيف تسميهم ـ أم علي ـ: الماركسيين الإسلاميين العرب…!؟