الفساد لا ينشأ من تلقاء نفسه، بل يوجد حيث يوجد المفسدون، وهوكالأنفلونزا سريع العدوى، لا يمكن أن ينجو منه أحد في دائرة تأثيره. ولا يمكن لأيإصلاح اقتصادي جدي أن يتم في وجوده. و قضية محاربته مطروحة و بإلحاح شديد منذ أمد بعيد، ومع ذلك فوتيرته لم تتناقص، بل ارتفعت درجته وانسعت رقعته، وطوق نفسه بمناخ من أوجه الفساد الصغيرة التي أوقعت أناسا من مستويات أدنى، واستطاعت البيروقراطية الفاسدة أن تبقي عليه نهجا ومذهبا.لأنه حين يتعمم الفساد لا يعود بوسع أحد أن يتحدث عنهأو الإعتراض عليه، طالما أن دائرته اتسعت فشملت شبكة واسعة من مصلحتها غض النظر أو السكوت عما يدور. إذ يلجأ المفسدون إلى إشاعة نهجهم الخاص على أوسع نطاق ممكن بين ضعاف النفوس ، بحيث لا يعود بوسع أي أحد الاعتراض أو الاحتجاج ضده ، عملا بالقاعدة القائلة أنه إذا اراد الفاسد حماية نفسه فإن عليه أن يفسد سواه أيضا ، فما أن يعم الفساد و يتورط فيه الكل حتى تتكون آلية تضامنية تلقائية بين المفسدين يتستر فيها الكل على الكل ، فلا ترى ، بعدها ، من هم عناصر الفساد أو الفساد نفسه . ولا يعود الأمر بعد ذلك منحصر في بضعة أشخاص فاسدين إنما يتحول إلى نهج متكامل يوفر أصحابه البيئة المناسبة لإستجراره وتعميمه ، وتحويله إلى ألفة تواطؤية قاسية تجهز على أمل الشرفاء وتكبل كل المبادرات الوطنية الصادقة، يصبح معها مجرد النقاش حول الفساد ضرب من العبث ، حينها يفقد الفرد قدرته على المقاومة بالتدريج ، وتعلو لديه نوازع الأنانية ، ويتخلى عن مبادئه وقيمه كما يتخلى عن إحترامه للقانون والنظام ، ثم ينتهي به الحال إلى التخلي عن إنسانيته وإحترامه لذاته وللآخرين ، وتغدو أنذاك كل خطوة أو إجراء لمحاربته، موضع حديث الناس وتندرهم في المجالس وفي المنتديات. ومع ذلك لا يمكن لنا إلا أن نكون سعداء حين نسمع أو نقرأ انه جرى ضبط بعض بؤر الفساد، وان إجراءات ستتخذ ضد من يثبت تورطهم فيها، ونكون أكثر سعادة حين نقرأ أو مسمع أن لا أحدا من الفاسدينسيكون محميا من المحاسبة، كما يصرح بذلك الكثير من مسؤولي العهد الجديد- وكما حدث أثناء انتخابات تجديد ثلث مجلس المستشارين-. لكن كثيراً ما يجري تقديم أكباش فداء غالبا ما يكون أصحابهافي دائرة الحلقات الأضعف، أو من الذين انتهت صلاحية استعمالهم،ويقدم الأمر على أنه حملة لمكافحة الفساد كالتي قام بها البصري أيام الملك الحسن الثاني، والتي إنتهت بالتهليل والتصفيق، وعادت كل حليمة إلى عاداتها القديمة راضية مرضية ولا خوف عليها ولا هي تحزن. فيما الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، وأكبر منه بكثير. فالمكافحة المطلوبة، والتي يجب أن تدور حولها النقاشات الجادة، هي تلك التي تشمل مقومات الفساد وبيئته في البنى والهياكل الرئيسية المخترقة بهذا الفساد. لأن مكافحة الفساد تتطلب الإمساك بالحالات المحددة عبر تسمية الشخوص الضالعين فيه، أمام أو خلف الستار بأسمائهم الحقيقية حتىلا تنحصر في حالات فردية متفرقة هنا أو هناك، وحتى لا يتحول الأمر إلى هبات موسمية سرعان ما تتلاشى. الفساد إذن نهج متكامل، ولا يمكن محاربته إلا بنهج متكامل أيضا، يفترض ألا يستثني أحدا مهما علا شأنه و سما المنصب الذي هو فيه، وأن يتوجه هذا النهج ليس فقط نحو احتواء حالات الفساد، وإنما نزع البيئة التي تنتج هذا الفساد، والتي ستظل تعيد إنتاجه ما بقيت،وما لم يتخلص منهاكمراض مجتمعي مرتبط بلعبة المصالح الضيقة والأنانيات الفردية المرهقة للمجتمع المخربة لثرواته، وما لم يكبح فلتانه المتعاظم والمتمادي والمعرقل الأول للنمو الاقتصادي.لأن الفساد وباء مرضي لا يسلم منه احد اذا تفشى واستشرى، ولا يستقيم معه جسد الدولة وسلامة إدارتها وصحة إجراءاتها وجودة خدماتها، بل ان التغاضي عنه يعني الاستسلام للمرض وللأخطار والكوارث وقبولها والتعود على روائحها النتنة، والنظر اليها باستخفاف، ثم انتظار النهايات الموجعة والموت البطيء الناتج عنها .فهو قضية يجب أن تتصدر أولوية أي رؤية أو أي نهج إصلاحي، اجتماعي أو سياسي أواقتصادية وتنموية. نهج اصلاحي ينطلق من قناعة بأنه لا خير في حملة” لمكافحة الفساد” لا يستفيد منها المواطن وتكبل الاقتصاد بانعدام العدالة بكل معانيها وتوسع من الطبقة المتوسطة ولا تعالج تزايد الهوة والفجوة بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، وتوزع ثمار التنمية بشكل سليم على المواطنين.
ربما قال قائل أن قضية محاربة الفساد هي من اختصاص البرلمانالذي يمتلك من السلطات ومن الأدوات الرقابية والتشريعية مايمكنه من التصديلكل أنواع الفساد فيايموقع كانوأنه بإمكان وحدهأنيشرعن الفساد ويمنحه الامان أويضع أصابعهفيأعين الفساد ويذهب عميقا فيكشفه و إدانته و إجلاء صورته الكاملة تمهيدا لقلعه من جذوره بغض النظر عن مكانة ونفوذ المتورطين فيه،و بعيداعن لعبة التوازنات السياسية والطائفية المتصلة به.
.لكن الحقيقة التي لا غبار عليها، هي أن الفساد ليس قضية البرلمان وحده، بل هي قضية المجتمع بكامله،وهويستحق المؤازرة من قبل كل تنظيمات المجتمع المدنيومؤسساته السياسية والمدنية و الإعلامية والمهنية،ففيالفساديخسر الجميع ولا تربح إلا فئة صغيرة،وفيالفساد تتراجع مؤشرات التنمية ونخسر حتى المكتسبات المتحققة من الإصلاح.
فمكافحة الفساد تعنيتقوية البرلمان وتعزيز دوره وتمكينه،و إعلاء شأن القوانين التيتتصدى لكل أنواع الفساد، كقانون الذمة المالية، والقوانين المحاسبية، ومراقبة مسارب المال العام وكيفية إنفاقه،ووضع الرجل المناسب فيالمكان المناسب.وقد اثبتت الكثير من التقارير والدراسات الاقتصادية أن الإخفاق التنمويترافق دوما مع وجود العناصر الفاسدة وغير المؤهلة فيالمناصب التيلا تستحقها، مما يدفع لتساؤل الكثيرين هل أعدمت البلد من الكفآت كينرى عددا من المسؤوليات والوظائف تمنح لشخص واحد فيزمننتوهمأنه زمن الإصلاح والعدالة وتكافؤ الفرص؟ أليست شكوى المواطنين من سوء الإدارة فيأيمرفق خدماتي،هو مؤشر جليعلى الفساد الإداري؟ أليست البيروقراطية وتشتت القرار وتنازع الاختصاصات والتصريحات الجزافية والوعود بحل الاشكالات ثم تأخير الحلول وإبقاء الجماهير على ارصفة الانتظار فيأيشأن صحيأو إسكانيأو معيشي،هو من مظاهر الفساد والإفساد..هذا الفساد الذي جرى ويجري دوما فيكل زمان و في كل مكان، مع الانغلاق السياسيوتكميم الصحافة وفساد البرلمانات والمؤسسات الرسمية والأحزاب السياسية،و فيظل انعدام البرامج والسياسات الحقيقية لتقليص الهوة بين منيملك ومن لايملك، وتركيز الثروات والمناصب والوظائف فيأيدفئة قليلة دون وجه حق.. حتى بات من المسلمات القول بأن الفساد أصبح شيئاً قائماً و أمراً موجوداً، بل وظاهرة راهنة قلّما ينجو من موجتها مرفق أو مؤسسة أو كيان..ومسؤولية مكافحة الفساد, وإنكانت تقع أولاً, وبصورة رئيسية على عاتق أجهزة الدولة, فإن المواطن – كلٌ من موقعه – يستطيع أن يقدم خدمة ما في مجال الحد من الفساد، فالمهم أن نحارب الفساد بكل أصنافه وأنواعهبغض النظر عن مرتكبيه، سواء كانوا صغاراً أو كباراً، تجاراً أو مسؤولين!فمقومات الإصلاح هي محاربة هذا الفساد بكافة أشكاله، والحد من انتشاره، لأن ديوعه بين الأمة يعتبر من أهم موانع الإصلاح، لذا لايجوز أننتغاضى عن دور المجتمع في منع تنامي الفساد، خاصة إذا أصبحت محاربته جزءاً منثقافة جديدة، تقوم على مبدأ عدم الاستسلام لأي من مظاهره.
فهل من الممكن أننهزم الفساد؟ ثمة من يراهنعلى أن المعركة مع الفساد قابلة للحسم خلال فترة قصيرة.فيما كثيرونيعتقدون أن (ثقافة الفساد) انتشرت إلى الدرجة التي يصعب معها إعلان منطقة ما خاليةمن الفساد!في الحالتين مع،لا أحد يحب أن يقف مكتوف الأيدي في مواجهة هذه الظاهرة العالمية،التي نعاني منهابصورة أكثر من بعض الدول.. وأقل من البعض الآخر.. التي تبقى معاناة تترك أثارهاعلى المجتمع والاقتصاد وكل مناحي الحياة.
حميد طولست