د/نصار عبدالله
” لا صوت يعلو فوق صوت البورصة ” … هذا هو الشعار الجديد الذى يبدو أنه
د/نصار عبدالله
” لا صوت يعلو فوق صوت البورصة ” … هذا هو الشعار الجديد الذى يبدو أنه سوف يجثم على أنفاسنا ويخنق حرياتنا وكأنما هو البديل المعاصر لذلك الشعار الوطنى الذى عشناه فى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضى وأعنى به شعار: ” لا صوت يعلو فوق صوت المعركة “، …لاشك أن المتتبع لما يحدث فى مصر على مدى الشهور والسنوات الماضية يستطيع أن يلحظ بسهولة أن كثيرا من القوى الحاكمة والمتحكمة تتعامل مع سائر مكونات المجتمع المصرى بأكمله وكأنها موجودة فقط من أجل البورصة ، أوكأن البورصة وحدها هى مقصد المقاصد وغاية الغايات!!!، وعلى سبيل المثال فعندما سرت فى العام الماضى شائعة عن مرض السيد الرئيس وتناقلتها ألسنة الجماهير بسرعة مذهلة، وعندما قامت بعض الصحف بنشر ما كان يتناقله الناس بهذا الخصوص تم تقديم رؤساء تحريرها إلى المحاكمة بحجة أن مثل هذه الشائعة قد تؤدى إلى تدهور أسعار البورصة ، وكأن صحة وسلامة مواطن مصرىـ بالغة ما بلغت مكانته ـ ، ورفيعا ما بلغ مقامه ، كأن صحة مثل ذلك المواطن ليست لها أهمية فى حد ذاتها ، ولكن المهم هو صحة : ” البورصة”!!! ، كذلك فعندما ينتقد كاتب أداء بعض الوزراء أو بعض المسئولين من رموز الحزب الحاكم يقدم إلى المحاكمة بحجة أن مثل هذا النقد يضعف الثقة فى الحكومة ويؤدى إلى انخفاض أسعار البورصة!! ، وعندما يتم اغتيال مطربة فى دبى وتتناقل الفضائيات أخبار تلك الجريمة التى ورد فيها اسم ما لشخصية ما ، يسارع النائب العام إلى إصدار قرار بحظر النشر باعتبار أن النشر قد يترتب عليه انخفاض أسعار البورصة ، ثم يستدعى أحد رؤساء التحرير إلى التحقيق بحجة أنه خالف قرار حظر النشر ، وأن هذا قد يؤثر على البورصة!!. ربما يرى البعض أن مثل هذا المسلك من جانبنا راجع إلى أننا محدثو بورصة!! ، وأننا مثل سائر محدثى النعمة نبالغ فى التباهى بها والحرص عليها ، لكننى شخصيا أعتقد أن هذا الرأى لا يمثل الحقيقة من كل جوانبها ، إذ أن هناك جانبا أكثر أهمية يتمثل فى أننا نحمل تراثا طويلا من تقاليد القهر والإستبداد، يجعل من أولى الأمر فى بلادنا يحتاجون دائما إلى حجة ما لخنق الحرية ، وقد كانت تلك الحجة خلال نهاية الستينيات وبداية السبعينيات هى حجة الإستعداد للمعركة القادمة لتحرير الأرض من قبضة الإحتلال الإسرائيلى، وباسم ذلك الشعار الوطنى النبيل ارتكبت جرائم كثيرة:، فقد أوقفت عجلة التنمية فى مجالات شتى ، وقمعت الإجتهادات الوطنية المخالفة لرأى السلطة الحاكمة ، وحوصرت الحرية ، وقتل الإبداع ، دون أن ندرك أن هذا كله سوف ينتقص منا ومن قدرتنا على تحقيق نصر حاسم فى المعركة التى يفترض أننا نحتشد من أجلها!! ،حتى إذا ما جاءت المعركة التى استعددنا لها طويلا كان من الطبيعى أن يكون انتصارنا فيها كشعب أقل بكثير جدا مما كنا نحلم وأضيق مما نرجو ، أما حكامنا فقد كان انتصارهم باهرا ، إذ نجحوا فى ترسيخ استبدادهم، بل وفى وتأبيده أيضا بعد أن كانوا قد نجحوا بفضل ذلك الشعار فى تعطيل كل قوى النقد والإبداع وكل إمكانات المشاركة الحقيقية فى صنع القرار الوطنى !!، …. وإذا كان شعار : ” لا صوت يعلو فوق صوت المعركة “، قد استنفد أغراضه بعد إبرام معاهدة للسلام مع العدو الإسرائيلى ، وبعد إعلان صريح من القيادة السياسية المصرية ، يقرب فى مضمونه من التعهد بأن حرب أكتوبر هى آخر الحروب بين مصر وإسرائيل ، إذ كان ذلك كذلك ، فقد كان من الضرورى استحداث ذريعة جديدة يتكىء عليها الممثلون لقوى الإستبداد السياسى ، ويتذرعون بها لخنق حرية الرأى والتعبير ، ويبدو أن هذه الذريعة قد جاءت متسقة مع طبيعة المرحلة الراهنة التى تسير فى ركاب ومتطلبات العولمة طبقا للمواصفات الأمريكية ، ومن ثم فقد كان من الطبيعى أن تتخذ من البورصة رمزا لها وأن يصبح الشعار البديل المطروح هو: ” لا صوت يعلو فوق صوت البورصة “، .. وسواء كان الشعار الحالى أو السابق هوالذريعة المعلنة لخنق الحرية ، فإن الشعار الحقيقى غير المعلن الذى يطرحه كل نظام مستبد هو فى حقيقة الأمر” لا صوت يعلو فوق صوت المستفيدين من دوام الإستبداد “، …”..لا صوت يعلو على الإطلاق!!