يحدثنا التاريخ أن استقرار روسيا يتعلق بما يجري في جنوبها عامةً، وفي شمال القفقاس خاصةً، كما أن مجريات الأحداث في منطقة شمال القفقاس؛ الذي يقطنه عدد ضخم من الشعوب والجماعات الإثنية، يرتبط بمجريات الأمور في جنوب القفقاس، والسياسات التي ينتهجها قادة الدول هناك، وفي المنحى ذاته فإن استقرار جورجيا وأذربيجان وأرمينيا وهي دول جنوب القفقاس؛ يتوقف الجزء الأساسي منه على ما هو قائم في شماله، وهذا ما تثبته حرب القفقاس الجديدة، وتجارب التاريخ القديمة. بأن هناك اعتماداً متبادلاً بين شطريّ القفقاس الشمالي والجنوبي، بما يقضي التعامل معه كجسم واحد، يترتب على تمزقه مخاطر جسيمة على دول المنطقة كافة.
وتشير الدراسات التاريخية الجديدة والقديمة المعادية لروسيا، بأنه يمكن اختراقها من خاصرتها الجنوبية،أي من منطقة القفقاس، الأمر الذي حاول هتلر عليه، بعدما فشل على جبهة الشمال عبر بحر البلطيق نحو بطرسبرغ (ليننغراد)، لكن هزيمته في الجنوب شكلت نهاية النازية.
ليست جورجيا من الشقيقات السلافيات ثقافياً وروحياً ووجدانياً، فهي ليست بلغاريا على سبيل المثال، وقد سبق لروسيا القيصرية أن حررتها من الاستبداد العثماني، كما حررتها روسيا السوفييتية من النازية، وسبق لموسكو أن تنازلت عن دول البلقان، دون أن تتغير السياسة الأمريكية القائمة على ازدواج المعايير، وواصل الغرب انتزاع دول البلطيق، ودون أن تتوقف عجلة الناتو عند عتبة دول الرابطة المستقلة (الكومنولت).
برز دور الرئيس الجورجي ساكاشفيلي في المشاريع المرتبطة بكارتيلات الطاقة الأمريكية، وبالذات مشاريع إمدادات ضخ الغاز والنفط دون المرور بالأراضي الروسية، علماً أن جورجيا صغيرة المساحة ولا تلامس شواطئ بحر قزوين ومكامن الطاقة، إذ بينها وبين البحر أذربيجان، لكنها تحاذي مناطق مرشحة للتسخين: داغستان، الشيشان، ابخازيا واوسيتيا. بل إن ما يفسر الحملة الإعلامية الروسية حول ضرورة استقرار أذربيجان، وبأنه «من مصلحة موسكو وواشنطن»، وهي الدولة من الفضاء السوفييتي السابق، الأمر ناجم عن إدراك موسكو لتفاصيل نقلات واشنطن، نظراً للدور المناط بجورجيا ساكاشفيلي. وأذربيجان إحدى دول بحر قزوين، التي لم يسبق أن طالبها البيت الأبيض بالديمقراطية، وقد اعترف في عام 2003 بفوز الهام علييف في الانتخابات الرئاسية، وفي عام 2005 بفوز حزبه بالانتخابات البرلمانية. أما اليوم فواشنطن أخذت تنظر بطريقة مغايرة إلى باكو بسبب من تنويع سياستها الخارجية، وبحثها عن أصدقاء في دول العالم كنهج سياسي، وهي المستقرة سياسياً وعلمانياً، وسبق وأن وصفتها الدبلوماسية الأميركية بــ«الحليفة المسلمة» وأخذت تخرج عن هذا الوصف الأميركي مؤخراً، ومنذ أن اقترح الرئيس الروسي بوتين (رئيس الحكومة الآن) الاستخدام المشترك الروسي ـ الأميركي لمحطة الرادار الروسية في غابالا، بديلاً عن «الدرع الصاروخي» الأميركي في بولندا وتشيكيا، والتي سُميت بمبادرة غابالا، لتوفير الإمكانيات الفعلية بين موسكو وواشنطن للتقارب استراتيجياً، المبادرة التي رفضتها واشنطن.
على ذات المنوال يأتي الصراع في تركمانستان، وهو بالفعل حول مخزونها الضخم من الغاز الطبيعي، والجوهر أن جنوب القفقاس بالنسبة لواشنطن هو جزءاً من مشروعها الطموح «الشرق الأوسط الكبير». والمفارقة هي عدم بحث واشنطن عن استقراره في نقلاتها في هذه المنطقة، باعتبارها الشريط الجبهوي المتاخم لجنوبه الذي يعتبر لديها بأنه قلب هذا المشروع.
تنظر موسكو اليوم إلى أهمية الجغرافيا السياسية كأولوية لأمنها القومي، خاصةً فيما تعتبره جزءاً من «ممتلكاتها الجيوسياسية» التاريخية، لكنها تنطلق أساساً نحو ذلك، من تأثيرها على المصالح الاقتصادية، وهي التي صمدت سريعاً في العقد الأخير، في بيئة تجارية ـ سياسية عالمية شرسة بمنافساتها الضارية، وعليه تعلن مراراً بأن علاقات روسيا مع الغرب هي علاقات تنافس وليس العداء، وسار قادتها نحو بناء روسيا كقوى عظمى ذات نفوذ عالمي، أخذت طريقها للبروز السريع كلاعب أساسي انطلاقاً من المصالح المشتركة، المقرونة بقبول حق الاختلاف والتنافس حين تدعو الحاجة إلى ذلك.
لقد عبر رئيس الوزراء الروسي بوتين عن ذلك( قبل أن يصبح رئيساً لروسيا) في تشرين أول (أكتوبر) 1999 في قمة هلسنكي، حين اقترح زيادة التعاون الاستراتيجي، ما بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، مقدماً اقتراحات عملية لدفع الدولة الروسية المترامية الأطراف، في بنية أوروبا الاقتصادية والأمنية للقرن الحادي والعشرين. وأدار بعد ذلك حواراً استراتيجياً مع ألمانيا ـ المستشار غيرهارد شرويدر ـ حول الطاقة، ثم طالب في أيلول (سبتمبر) العام 2000 بخطابه أمام البرلمان الألماني ـ الرايخشتاع ـ بدمج موارد الطاقة الهائلة في سبيريا مع قدرات الاتحاد الأوروبي، والذي انتهى بإنشاء خط أنابيب الغاز الروسي – الألماني عبر بحر البلطيق عام 2005، الأمر الذي جعل ألمانيا الموزع الرئيسي للغاز الروسي في أوروبا، وقد قوبل بانتقادات حادة من بولندا ودول البلطيق، فضلاً عن بيلاروسيا وأوكرانيا، متجاوزاً بذلك تلك الاحتكارات القديمة.
مقدمات ما يجري الآن كانت معروفة، وسبق وأن أنذرت موسكو بأن استمرار الأعمال العدائية في أبخازيا وفي اوسيتيا، أو محاولة استردادها لجورجيا بالحرب، سيجبر روسيا على الدفاع عن وحدة أراضيها الفيدرالية، منطلقةً من أن هذه الجمهوريات التي انفصلت عنها مطلع تسعينيات القرن الماضي، قد قامت بدعوة الرئيس الروسي الأسبق يلتسين بقوله:«خذوا من الاستقلال ما تستطيعون أن تهضموه»، الأمر الذي رسم الخرائط الجديدة لجورجيا ذاتها، حين رفضت هذه الأقاليم الانفصال. فما يجري اليوم وفقاً لما تراه موسكو هو محاولات واشنطن لاحتواء روسيا بآليات مشابهة للحرب الباردة، المشاريع المناوئة لروسيا في القفقاس ومنطقة بحر قزوين، وصولاً إلى العمل لإلحاق بلدان المنطقة بحلف الناتو، بعد المحاولة الفاشلة لإخراج دول آسيا الوسطى عن دائرة النفوذ والتأثير الروسي.
لقد أخطأ ميخائيل ساكاشفيلي كثيراً في تقدير الموقف، خاصةً وأن الموقف الروسي يتكرر سنوياً في خطاب الرئيس حول حال الاتحاد الفيدرالي الروسي، والذي بات يطلق عليه «عقيدة بوتين» حول «سيادة الدولة ووحدة أراضيها»، والذي يترجم على مستوى الأمن القومي بمكانة قيادية لها في المجموعة الدولية، ببناء نظام دولي مستقر وعادل وديموقراطي مؤسس على علاقات متكافئة، بالتوازي مع خلق نظام دولي متعدد الأقطاب، والذي يمكن تلخيصه بثلاث كلمات : السيادة والتعددية القطبية.
لقد بات هذا النظام الدولي ممكناً بعد بروز الصين، وترى موسكو بأن دورها كمحور لا غنى عنه في أي جهد موجه نحو شرق أوروبا وآسيا الوسطى، وكطرف أساسي في المعادلة الصينية ـ الهندية المستقبلية، وقد نشأ أساساً على تناقص نفوذ واشنطن نتيجة الحرب في العراق، وضعف علاقتها بالاتحاد الأوروبي بسبب اختلاف الأولويات. بل حتى أن أعتى الليبراليين الجدد الروس قد عبروا عن ذلك، وسبق أن أعلن وزير خارجية يلتسين اندريه كوزيريف الملقب بـ«السيد نعم»، وصاحب مبدأ «الانكفاء المتوازن» في العام 1994 عن ذلك بالقول: «إن فكرة النظام الدولي للقرن الحادي والعشرين لن يكون خاضعاً للهيمنة الأميركية، أو أي شكل من أشكال النفوذ الأحتكاري الأحادي أو الثنائي، فليس لدى واشنطن القدرة على حكم العالم بمفردها».
يندرج في التداعيات الساخنة إعلان موسكو استعادة التحاف مع كوبا، في إطار ردة الفعل، وجاء نتيجة مباحثات أمنية وتجارية وعسكرية مع الجزيرة التي تبعد في البحر الكاريبي مئة وخمسين كيلو متر عن الشواطئ الأمريكية، ولم تخفِ موسكو بأن هذه النقلة هي رد على الدرع الصاروخي الأميركي، وفي اليوم ذاته جاء إعلان الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز بأن بلاده تسلمت 24 طائرة روسية مقاتلة من طراز سوخوي 30 المتطورة جداً.
في حرب القفقاس في الواجهة جورجيا ساكاشفيلي، وفي خلفية المسرح منصات ضخ الطاقة وإمداداتها، والخلاصة هي أن روسيا استعادت أهمية اللغة الجيوسياسية، وهي قوة عظمى معاصرة حقيقية في الوقت الراهن، لديها الكثير من الأوراق، لمن يخطئ في التقديرات وحسابات الاستراتيجيا.
*كاتب فلسطيني