من مجمل التحديات التي تعترض مسار تقدم شعب الوطن العربي، ليست تلك التي يواجهها فقط من العالم الخارجي الطامع والأكثر تطورا، وإنما أيضا استجابة جل مجتمعاته أمام الإبهار إلى الانخراط في لعبة التقليد والانقياد لها، التي ليست من صالح شعبه على الإطلاق، إذ لم تفقد الشعب الارتكازات المجتمعية لتكوين الدولة وأنظمة الحكم وحسب، وإنما باتت الفوضى الدولتية من سماته في عصر المجتمعات المنظمة الحديثة، وربما كان هذا ما تسعى إليه وتتطلبه مصالح الاتجاهات الرأسمالية العالمية، عبر ما يلحظ من إصرارها على تفتيت المنطقة بالوسائل المتبعة من احتلالات إلى حروب دائمة واقتتال وفتن، لإلحاقها وإبقائها كأسواق مستهلكة، إنما هذا يتنافى مع مصالح شعبها التي تنحدر مجتمعاته رغم ثراء مواردها إلى مزيد من الفقر، الذي سيؤدي بدوره إلى العدمية المجتمعية والسياسية ومن ثم الإلغاء، ولما كان البعض ممن يجهلون بواطن الأمور، قد خرجوا بنتائج محبطة اعتمادا على الظواهر، وألقوا بتبعات ما هو صائر إلى عقم الشعب وعجزه، وارتاحوا من عبء واجباتهم وأحمالهم، ولم يزالوا بعقل تخريفي يزاولون لعبة المعميات التثاقفية واستنساخ تجارب الآخرين وبهرجاتهم، قد أصبح من الأفضل لهم أن يعلموا بأن الموضوع خطير وجديته لم تعد تحتمل المماحكات والمناورات والحرتقات الصبيانية، التي يضع البعض برامجها مع الغير لإدراجها كموضوعات إلهاء لتطبيع أصحاب الثقافات المهزوزة وتوابعهم وجرهم إلى محاكاتها، فإن ما هو مطروح دعوة منفتحة لكل المتنورين والمثقفين الثوريين وأصحاب الرأي من الطبقات المنتجة إلى البحث للخروج من هذا المهوار إلى سبل تكوين الدولة السياسية القادرة.
فرغم وطأ الحملات، الفكرية والعملانية، ضد مفاهيم العروبة المتشكلة طبيعيا لدى إنسان المنطقة عبر الأزمنة التاريخية، فمن المؤكد بأن العروبة لم تزل مطروحة بقوة على الساحة العربية في مواجهة التصاعد المضاد المفتعل، الذي يستهدف المنطقة خدمة لتصاعد حاجات استثمارات الرأس المال الغربي عقب المتغيرات النوعية، التي طرأت على بنيته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولم تستطع كل الهلوَسات الطامحة بأشكالها الصدامية المتعددة القادمة مع تقليعات الغرب الأوروبي المبهرة، أن تشكل أساسا لتقويضها، ويبدو أنها لن تتمكن منها.
لذا استدعى ذلك إعلان حرب عالمية غير مسبوقة في العصر الحديث ضد العروبة، استخدمت فيها أنواع الأسلحة، وقد شاهدنا ممارساتها وشعوب العالم ضمن فترة لم تتجاوز العقد والنصف من السنين عندما استهدفت منطقة استضعفت ابتداء من عام ال 91 والمقصود الحرب ضد دولة العراق وما تلاها من حرب تجويع وحصار إلى الحرب الغازية باحتلال كل أرض العراق عام 2003 وإلى إشاعة الفوضى فيه والخراب، إلى جانب افتعال حروب جانبية متعددة على مساحة امتدت من الصين إلى المغرب العربي نزولا إلى السودان وأرض الصومال، ولم تزل تداعيات مفاعيلها تتوسع مع الجديد من الأيام.
فالمتحولات الطارئة على البنى المجتمعية العربية كنتيجة لمغلوطات في تركيب الدول القطرية بالإضافة إلى سوء استخدام الإدارات في هذه الدول المركبة اتجاه مجتمعاتها، منها بعض ممارسات الحواشي السلطوية، والاتجاهات المحلية التابعة والخادمة عبر الأطر الإقليمية للسياسات العالمية وما تفرضه من أحكام قامعة جائرة مغايرة لتوجهات الشعب العربي وأنماطه الطبيعية المعاشة وطموحاته في النهوض.
فالعروبة ليست هي نتائج هذه الممارسات وإن تقصد تعميم هذه النتائج السلبية وكل ما أحدثته من متغيرات على ظاهرة العروبة، إذ أن العروبة في جوهرها تختلف، فالعروبة ليست هذا الكم من التخلف والضياع، العروبة كانت دائما هي الإنسان العامل والوعي المتحرك لهذا الإنسان لمآل جهده وتراكمه على الأرض العربية، العروبة هي مفهوم لنتاج الشعب المنتج المستقر: الذي كان يدفع دائما عبر مسيرته الحياتية الطبيعية باتجاه إقامة المجتمع المنظم العادل الموحد لمزيد من الأمان والتقدم.
كما يلاحظ فلقد ارتبطت فكرة العروبة في العصر الحديث ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر للعهد العثماني إلى زمن الاستقلال عنه، المتوافق مع انتهاء الحرب الأولى ووعود الدول الأوروبية للشريف حسين بإقامة الدولة العربية الواحدة، بفكرة الدولة العصرية على غرار الدول الأوروبية شكلا ومضمونا، بغية إقامة المجتمع الأفضل، مجتمع الحريات والسلم والتقدم، ومع القبول بالأمر الواقع – الناتج عن معاهدة – سايكس بيكو- وبزوغ الدول القطرية العربية بقرارات دولية وفقا لمصالح الدول الأوروبية في تقاسم النفوذ فيما بينها، فإن الشعوب العربية في تلك الأقطار قد اعتبرت دائما أن هذه الدول الناشئة، إنما تشكل خطوة مرحلية لاستعادة وحدة المنطقة.
وبالرغم من ارتباط مصالح بعض الشرائح المحلية المتكونة آنذاك بالعجلة الاقتصادية الأوروبية (ككمبرادور) بصفة جامعي أموال الشعوب لصالح الغرب، أي مع بقاء الأطر القطرية، فإن التوجهات الغالبة لشعوب تلك الأقطار كمكونة ومنشئة طبيعية لنظام الدولة، فكانت تدفع باتجاه تجاوز الحدود القطرية إلى وحدة المنطقة كضامن دون وقوع الدولة القطرية كليا بقبضة الشرائح المرتبطة، ومن ثم إلى إقامة دولة عربية قادرة، لذا كانت غالبا ما ترتبط شرعية وجود الحكومات وشعبيتها بمدى ارتباطها بفكرة العروبة الطموحة إلى إقامة الدولة العربية الواحدة، بغض النظر عن التسويات السياسية التكتيكية وأصوات الاقتراع، وقد تجلى ذلك بمدى شعبية تلك الأحزاب والحركات الآخذة بالطابع الوحدوي العروبي، وأيضا بقيادة ثورات المنطقة التحريرية، ومنها شعبية قيادة عبد الناصر التاريخية، تلك القيادة التي ربطت فكرة الثورة والتحرر والتقدم والطمأنينة على المستقبل، بتحرر الشعوب العربية من الإستعمار والرجعية المحلية وبتجاوز الحدود الإقليمية وإقامة الوحدة العربية.
ومن الملاحظ حتى منذ ما قبل دول الاستقلال، أنه قد عمد دائما على خلخلة أسس المجتمع المنتج المستقر في الأرياف والمدن عبر التدخلات الأجنبية من دول الجوار الكبرى في شئون الدولة العثمانية، وأن ما كان يوصف زمنها بالإصلاحات الدستورية باستنساخ النموذج الأوروبي المشكوك في غاياته، وليس في حقيقته سوى تطويع وتطبيع لإدارات الدولة آنذاك لإجراءات التحاقية بالدول الأوروبية، إذ أن هذا المجتمع المنتج على بدائيته، كان بطبيعته يدفع باتجاه تعزيز الأعراف والتقاليد والشرائع وإلى إنتاج وحدة مجتمعية منتجة للمؤسسات الدولتية المكوّنة للدولة، وهذا يتناقض مع الغايات الهادفة المرسومة إلى إنتاج مجتمع مركب مخلخل بديل ومفهوم إداري للدولة يسهل فيه التعامل مع المتسلطين عليه، ويرتبط بشكل متساير مع عواصم الدول الكبرى ومراميها، وذلك عبر إجراءات سياسية إدارية لها مفاعيل اقتصادية من خلال سيطرة السلطة الأجنبية أو عملائها على المجتمع، فتعمد هذه إلى تشكيل عشوائي لقوى اقتصادية جديدة على أنقاض القديمة الأصيلة عبر توزيع ثروة الدولة بين هذه القوى، التي يغلب على أجوائها طابع المحاباة والسمسرة والعمالة، والتي تتناقض في تكوينها ومفهومها للقيم مع تلك القيم المجتمعية المرتبطة بالعمل تلك التي درج عليها المجتمع في كنف القوى المجتمعية التقليدية المنتجة وسيادتها،
ولم تشذ عن ذلك سلط دول الاستقلال الوريثة، بعد أن أصبح ثراة العهد السابق ورجالاته الحكام الجدد ضمن المظاهر الاحتفائية المعلنة باستقلال الوطن، إضافة إلى اختراق عوامل جديدة المجتمع الجديد، إذ أصبحت أموال البترو دولار السياسي وأموال لصوص الآثار والتهريب والقوادين وأولاد العاهرات وخريجي البعثات الخيرية وعصابات الإجرام والمال العائد من نهب الدولة، السادة الجدد، وأضحت مظاهر خرق قوانين وأعراف المجتمع المعلنة أو المستترة والانفلات العام المُقونن عنوان المرحلة، تلك المرحلة؛ التي تتطلب قيَمها الجديدة وسادتها الجدد، والتي كان يؤدلج مبررات صحتها بعض الأحيان مع الأسف عدد من السياسيين ودعاة الفكر من رجال دين وعلمانيين، والتي كانت تصب مجمل نتائج ممارساتها إلى نهب المجتمع، لذا كان من الطبيعي، أن تلتحق قاعدة البنية الإنتاجية المتضررة في المجتمع الواقعة تحت سطوة التراكم الاستغلالي المفرط، ووسط صدمة الاندهاش إلى ما آلت إليه الأمور في دول الوطن الجديدة إلى مناصرة الأحزاب والتجمعات الوطنية العربية كباب لإنتاج دولة حقيقية جديدة، استطاعت فيما بعد أن تتسلم السلطات فيها قادة هذه التيارات وأحزابها.
فمن البديهيات المعروفة في السياسيات أن الدولة لا وجود لها بالتكون الطبيعي دون وجود مجتمع منتج ينتج مفهوم المواطنة، حيث يشارك مجموع الشعب العامل بإقامة الدولة ومنظومتها والسلطة فيها، ومع أن القاعد الشعبية العاملة في المجتمع العربي قد ناصرت قيام الدولة الوطنية كأمر واقع وصبرت على بنائها وتعزيز وجودها، فإن هذه الدولة المحدثة على اختلاف نظمها، حيث رأسمال الدولة على تعدد مصادر جباياته واختلافها، أكانت ثروات وطنية أو عائدات ضريبية أو ما شابه، كان يلعب دورا أساسيا في بناء المرافق الضرورية لتنظيم التكوينات الإنتاجية وانطلاقها في أوضاع ضعف أو غياب الرأسمال الفردي أو المؤسساتي– طرق، قطارات، كهرباء، مشاريع مياه، معامل عملاقة ضرورية الخ، فقد لعب دورا أيضا في إعادة توزيع الثروة، إذ أن هذه الدولة ورأسمالها الموظف قد أحدث تضخما في أجهزة المؤسسات الدولتية الوظيفية ومداها السلطوي كممثلة للجهاز الحاكم القوي وليس لطبقة المنتجين الهشة، مما أدى ذلك إلى إحداث متغيرات في البنية المجتمعية، أنتجت مجتمعا فقد ارتباطه بالإنتاج وتبعا بضرورة الدولة الوطنية ومجتمع المواطنة، تعزز مع تخلخل بنية الدولة وعجزها أمام الضغوط الدولية عن تلبية الحاجات الضرورية لسكانها أو الدفاع عن أمنهم، هذا المجتمع الذي كان من المفترض طبيعيا أن يساهم في بنائه وتطوره الفرد المنتج عبر مشاركته السياسية لإدارة دولة الوطن والدفاع عنها، مما أدى إلى تحول هذا الفرد فيه باتجاه اختراق تخريبي لمنظومة المؤسسات الدولتية وركائزها وقوانينها بما فيها وحدة دولة الوطن باتجاه الفوضى.
وهكذا بينما أنتج المجتمع العربي في حالته التقليدية المعتبرة بدائية مجتمع الدولة الوطنية ومجتمع المواطنة، أنتجت الدولة القطرية آليا بالمقابل، عندما انتهجت شكل الدولة العصرية بالمداخلات الغربية، المجتمع المضاد، مما أدى هذا إلى خلخلخلة مفهوم المواطنة، ذاك بعد أن فقد الفرد في الدولة الجديدة قيمته كمنتج ينتمي إلى عمله و أهمية دور هذا العمل في بناء دولة المواطنة حيث الكل فيها سواسية حسب الأعراف والقوانين، فانتماء الفرد في هذه الحالة لم يتحول إلى ذاتيته، تلك السائدة في الحياة ما فبل المجتمعية، بل إلى الشرائح المجتمعية المثيلة المبتلية، أكانت عصبوية مافيات وتجمعات لصوص أو تجمعات عشائر وطوائف لمواجهة الشرائح المضادة حيث تسود عقلية الغزو البدائية (التكفيرية) في تحليل ما يمتلكه الآخر ونهبه، التي طبعت المجتمع بطابعها.
وبينما نجد أن شرعية الدولة الطبيعية ومصداقيتها تتحدد بتحمل مسئوليتها ومدى حرصها على تنفيذ واجباتها في الحفاظ على حقوق الفرد وأمنه وضمان تقدمه بصفته مواطن في وطن اختاره، ويتطلع المواطن بدوره إلى الدولة بصفتها مؤسسات المنظومة الدولتية الوطنية التي وافق عليها واختار القائمين عليها كراعية لشئونه وحامية للعدل، حيث الكل سواسية فيها أمام العرف والقانون دون تمييز على أساس العرق واللغة والإنتماء، وتبعا لا وجود فيها لمنطق الأقليات والأكثريات، نرى بالمقابل في هذه الدول القطرية انكماشا لهذا المفهوم وبروزا متصاعدا لحساسية الأقليات وحقوفها وما شابه، بات يشكل حالة مطلبية في مواجهة الدولة، مما يؤكد هذا وجود خلل في بنية المجتمع كان لا بد أن ينعكس سلبا على الدولة وسلطتها، وإلى تحولها تبعا من دولة المواطنين إلى دولة السلطة ترى جوهر وجودها في إقامة التوازن بين عصبيات نافذة لا علاقة لها بنشوء الدولة، وسيطرة عقلية الرضوخ لاسترضاء بعض الجماعات على حساب الأخرى دون العودة إلى المبدئية والشرعية المبررة لوجود الدولة: كأساس للعدل المجتمعي.
وعبر استخدام المجزوء المجتمعي المتحول بمضمونه السلبي المرتبط بظرف الزمان والمكان بما يخص مآل ممارسات الدولة القطرية بغض النظر عن شكل نظامها الجديد، عمد إلى تعميم نتائج المتحول السلبية على الكل العروبي وإلى تخصيصها بالأنظمة ذات التوجه القومي، ومن ثم إلى اعتبار مظاهر المتحول السلبية هذه صفة المجتمع العربي الأساسية، اتخذتها الدعوات المناهضة قاعدة ترتكز عليها للتعرض للفكرة القومية العروبية، هذه الدعوات التي تدرجت في عدائها إلى هجوم شرس حتى التوحش، الذي عبر عنه وأعلنه الغازي الأمريكي ومن التحق به من محليين بتفاخر في نيسان 2003 عند احتلال بغداد وتدمير العراق.
وكانت هذه الهجمة المضادة تستهدف منذ البداية وعبر برامجها المرحلية بما احتوت من حيثيات، تفريغ العروبة من مقوماتها باستخدام السلبيات الظاهرة وتضخيمها لتعميمها وإلى تشويه سمعة الأحزاب والجمعيات والمنظمات والشخصيات السياسية والفكرية الداعية إلى العروبة، ابتداء من الرئيس عبد الناصر وتجربته وانتهاء بالرئيس الشهيد صدام حسين المجيد، وذلك لإحلال تصورات وأفكار بديلة: منها استيلاد الاستقلال الذاتي للمتنوعات السكانية المنضوية في منظومة العروبة انتهاء بالعصبيات العرقية و المذهبية والطائفية والثقاقية، وغالبا ما كان يتم اللجوء لتعزيز هذه التوجهات الفتنوية بتحويل المسمى العروبي إلى مسميات أخرى أو إلصاقه بما ليس فيه، ليأخذ شكل الطائفية والعشائرية والعرقية، كما في إلباس العروبة للسنة أو الشيعة أو لنقاء عرقي يستقدم من التاريخ البعيد أو إلى الأقليات المذهبية حسب ما يقتضي الحال، علما أن العروبة في واقع الحال هي التعبير عن الاحتواء التاريخي لعملية التعارف الإيجابي بين تنوع المكونات السكانية وما نتج عنها بالضرورة من عرف معمول به كاتفاق غير مكتوب ولكنه معلن للعيش المشترك على الأرض الواحدة، ضمن منظومة العلاقات الإنسانية المتجددة والمبقية بالآن على خصائص هذا التنوع، من أجل الأمن واستمرار العمل المنتج والرفاه والتقدم، بما كان يصاحب هذا على مر العصور من توفير مناخات الإبداع التي تميزت بها هذه المنطقة بإنتاجها للحضارات المتعاقبة.
فمن ضمن المعطيات الجيوسياسية للمنطقة إضافة إلى عوامل متميزة طبيعية حاضنة، كانت تفترض عبر المراحل التاريخية المتعاقبة وصولا إلى نهاية الدور العثماني، وجود دولة واحدة تحتضن شعبا يتصف بخصائص واحدة أو متقاربة، على ما في هذه المقولة من شوائب أملتها انقطاعات أوجدتها مداخلات ومصالح القوى الدولية المحيطة وظروف تبدل موازين القوى في المنطقة، وفي المنعطف التاريخي الذي صاحب انتهاء الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، كانت الحركة العربية وما سمي بالثورة العربية الكبرى كفعل عسكري لها، ليست في حقيقتها سوى امتداد لتطلعات شعب المنطقة على إبقاء وحدة المنطقة العربية.
إلا أن الظروف الدولية الضاغطة وتقاسم النفوذ بين الدول العظمى على أراضي الدولة المنهارة، كما هو معروف، قد اقتضى تشكيل ورسم دول قطرية وإدارات وفق مصالح كل دولة بحدود المناطق المتقاسمة المستقرة في نفوذها بعيدا عن إرادة شعب المنطقة وتطلعاته، وافقت وصادقت على قراراتها آنذاك منظمة عصبة الأمم الدولية،
مما كان يتوجب على الوطنيين العروبيين وفق تطلعاتهم مهام إعادة الدولة الواحدة على الأرض الواحدة، أقلها على ما بات يسمى الوطن العربي، وإزاحة الحدود المرسومة للدول المصطنعة، تلك الطموحات التي تزعم حركتها التحريريون القوميون العرب، لذا كانت مهام القوميين العرب في تلك المرحلة تنصب في الاتجاهات التالية: 1- تحرير الأرض والشعب، 2- إقامة الدولة التحريرية النموذج والأساس، 3- الوحدة العربية، وقد اعتبر استلام سلطة الدولة القطرية من قبل القوميين أن الدولة محررة، وأن من مهامهم فيها إنشاء دولة قوية (نموذج) على غرار دور الدولة البروسية في توحيد ألمانيا، تعمل على دعم حركات التحرر العربية في الأقطار العربية من أجل انضمامات محتملة للمحرر من الأقطار، لإقامة دولة الوحدة العربية الكبرى، إذن كانت المهام الأساسية بالنسبة للعروبيين هو التحرير بما يتضمن هذا التحرير من حيثيات لتجاوز التخلف وبناء الدولة القوية اقتصاديا وسياسيا بغض النظر عن السلبيات والإيجابيات، مما أغفل عنهم أصول نشوء الدول الطبيعية وأنظمة الحكم، وأن الدول بسلطاتها لا تنشأ من فوق.
لذا وجد هؤلاء أنفسهم في خضم معايشتهم لشئون السلطة الدولتية في الدولة المحررة لتطبيق برامجهم التغييرية في مواجهة الواقع المتخلف، مثال: الجمهورية العربية المتحدة، الجزائر، العراق، سوريا، أن كل ممارساتهم السلطوية خاضعة لشرطين، 1- شرط نشوء الدولة القطرية بقرار دولي صادر عن المنظمة الدولية وخاضعة بالتالي بما يصدر عنها من أعمال للدول صاحبة النفوذ، 2- انتفاء وجود الدولة الطبيعية المؤسسة على أراضيها، كشرط لإقامة الدولة العصرية، وان ما سبق لها لم يكن دولة، وإنما هي منطقة تابعة للدولة الملية العثمانية أو ما يشابهها ومشروطة الممارسات السلطوية والرعوية فيها بطبيعة نظام الحكم السلطاني وأحكامه، بما يترتب على ذلك وما يقتضيه الحال بالضرورة إبقاء هذه الممارسات السلطانية في الدولة المحدثة (الدولة القطر) لرعاية مصالح أبناء العائلات والعشائر والأعراق والمذاهب والطوائف، مما قاد هذا إلى مفارقة جذرية بين ما تقتضيه أحكام التغيير للدولة الناشئة في الدول العربية المحررة وغيرها من الدول، كسلطات تسعى إلى تطبيق النموذج الأوروبي الذي صنعته الرأسمالية على أنواعها في دولها عبر قرون وقوضت بموجبه دولها القديمة عبر دورات دموية، وما يقتضيه واقع الحال كمناطق متخلفة مختلفة، لم تزل تعيش فيها الحالة السلطانية.
لذا فإن البحث في المسائل الدولتية وأنظمة الحكم، يحتاج إلى الكثير من الدراية، ولا يكفي الأخذ بالشعارات والنماذج ونقل قطعها الأدبية أو الحكمية عن سياقها لتطبيقها هنا وهناك، كما لا يكفي تجميل الكلام والتمترس خلف شعار الفضيلة لاتهام الشرفاء بالرذيلة أو أي كان، فأين هو الحامل الديمقراطي لكي يتم الإدعاء، ما هو سند الإدعاء ومن هو المدعي على هذا النظام العربي أو ذاك وعلى الحاكمين بموجبه بأنهم ديمقراطيون أو ديكتاتوريون، إن هؤلاء السلطويين بأفضل أحوالهم وبحكم الظروف الموضوعية التي أنبتتهم، هم حكام سلاطين بمعنى الموروث السلطاني للمنطقة والمفهوم السياسي له، فإما أن يكونوا عادلين أو سلاطين جائرين، ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الاستبداد بمعنى التفرد إنما يخضع لمنظومة فكرية تتبع السلطانية لا تجيز للرعايا أو من هم خارج المسئولية إبداء الرأي بالأمور العامة منعا للفوضى، إلا أن هذا لا يرتبط بالجور كما يشاع، أما الديكتاتوريات والفاشيات التي راجت مفرداتها، فيعود مفهومها في العصر الحديث إلى منظومات فكرية نشأت في أوروبا ما بعد الحرب الأولى، دفعت إليها بورجوازياتها الوطنية لحماية الرأسمال الوطني من الفوضى ومن حصار الغير ومن أجل البقاء على وحدة الوطن.
وعلى ما تقدم فليس من الصواب إذن النقل من منظومات فكرية كونتها مجتمعات الغير وفق ظروفها وشروطها لتطبيقها في مجتمعات مغايرة، إذ أنه ضرب من العبثية والمماحكة السياسية لا يمكن أن ينتج سوى مجتمعات العدمية السياسية والتخريب والفوضى، كما لا يمكن تبنّي مقولاتها بحرفيتها لاستخدامها في اتهام الآخرين، إذ لا يمكن الحكم من موقع مخالف على الآخر أو من فراغ،
ولقد اشتطت بعض الإدعاءات الثورجية التي انقلب أصحابها لاحقا إلى الليبرجية في هذا المنحى وإلى غرف ما يحلو لهم من عبارات وادعاءات خارجة عن سياقها لوضعها بتلفيقية مفضوحة أو غباء في مواجهة تجارب حية لإثبات بطلانها، إذ جرى أحيانا على الهوى رفض تجارب عربية رائدة كانت ظاهرة(عبد الناصر)مثلا: دون بذل أي مجهود عملاني لتحليل تكوينها وبنيتها وأسباب الخلل فيها، وعوضا عن ذلك تمت استعارة مقولات رائجة وتركيب صياغات نظرية كمقترحات عملية لممارسات سياسية مستقبلية بديلة لا علاقة لها بأرض الواقع كالديمقراطية والحياة الحزبية المنظمة، والحركات الشعبية إلخ.. فإن تم تبنّي مثلا مقولة؛ لم نختبر حقيقة صحتها، بأن الدولة (القاعدة) ليست الأساس في موضوع الحركة القومية العربية، ولكن ما مصير انتصار حركة التحرر العربية في قطر أو إقليم ما، هل يتم رفضها ومنع التحريريون من تسلم السلطة بها استنادا إلى فشل بعض التجارب والتمسك بالمقولات، هل نرفض ظهور قائد أو زعيم ثبتت حكمته وثبت إخلاصه لدى شعبه ونجاح مشروعه، بدعوى التمسك بالقيادة الجماعية وبحكم كل الجماهير، كيف؟؟ ،
لم تجر دراسات معمقة مغايرة، إذ أن كل ما حدث وخاصة من قبل المعارضات المهلوسة بالديمقراطية، لم يتعدَ الصياح بالديمقراطية، وتحويل المقبول إلى مضاد وقذف الشتائم ضد الديكتاتوريات والإستبداد والإرهاب، ربما كان ذلك تغطية لعجزهم وتبريرا لمنزلقاتهم المتراكمة أو دفاعا عن مواقفهم المغلوطة الحاصلة كنتيجة لوضعهم الهامشي بين شعوبهم أو خوفا من ردود أفعال شعوبهم على دعاويهم الخيانية بتدمير أوطانهم بما يترتب عنه من إبادة وتشريد للأهالي عبر الإستقواء بالأجنبي بحجة إسقاط السلطات، لم تجر أبحاث معمقة خارج مؤثرات العقل الغربي وإيحاءاته، حول طبيعة شعوب المنطقة: طبيعة علاقاتها الاقتصادية والاجتماعية ومآلاتها السياسية، لكن الغريب في الأمر، إن من يدّعون العلم والفكر والنخبوية والتغيير، لم يزالوا على السطحية السلطانية، ليس فقط في قطع رأس سلطان قديم من أجل جديد، فهم لم يزالوا يحاسبون أخطاء الموتى من القادة، دون التجرؤ على دراسة القاعدة (الشعب) التي تنتج القادة والسلطات والدول، السؤال إذن هو كيف إذن سيمثلون الشعوب؟
وعليه فإن الشعب العربي اليوم صار إما في حالة الدفاع والحفاظ على ما تبقى من أرض الوطن، وإما في حالة الاحتلال، أما النخبة والمثقفون الثوريون فيجهدون بالمقاومة من أجل التحرير، وأمام هذا الاستهداف العالمي ووضع الفوضى المحلي: أضحت بلادنا على وساعة أرجائها إما مخيمات للإقامة المؤقتة لشعبها من أجل تهجير آخر، أو أماكن لجوء جديدة لهم، وفي هذا الوضع لا يمكن أن تبنى دول حقيقية أو أن تستمر.
ماذا يفعل الشعب والطليعيون منهم المؤمنون بحركة القومية العربية؟ يمكن للمحايد أن يستشف؛ بأن لهم تصوراتهم الجنينية، لكنها مبدئية وصحيحة، لإقامة الدولة المحررة ودولة الوحدة، تبدأ من بديهيات تحرير الوطن والشعب عبر الرفض وإشعال المقاومة المسلحة في كل مكان ضد الظلم والاحتلال لإنشاء مجتمع منتج مستقر، لكن حتى ذلك الوقت لا بد أن تنصب كل الجهود من أجل الارتقاء بأنواع المقاومات وابتكار الأساليب الجديدة التي تتناسب وشراسة العدو في هذه المرحلة، دون نسيان تكريم شهداء الشعب والوطن واستلهام روحهم الكفاحية المناهضة للظلم والإستعباد وثباتهم في مواقفهم الحكيمة؛ من عبد الناصر، وصدام حسين المجيد، إلى عمر المختار.
سليم نقولا محسن