تعودنا أن يقطع سيفُ العسكر رأسَ كل حلم موريتاني جميل.. كم مرة غفونا فاستيقظنا على انقلاب ووعود فردوسية، تليها سجون ومخافر وتحقيقات وتصفيات، ومن ثم نودع العملية التنموية إلى أجل غير مسمى. وعلى نقيق بيانات ضفادع المتزلفين نغفو كالطفل تخـَــدّره قصص تحكيها جدات الجنود، وفي الصباح الباكر نستيقظ على انقلاب “تصحيحي” ووعود خضراء، فسجن، فمخفر، فإعدامات و”إلى اللقاء أيتها العملية التنموية البليدة”، وهكذا دواليك، هكذا دواليك…
لم نكن جد مقتنعين بأن ما تمخضت عنه “المرحلة الانتقالية” هو الديمقراطية بكل معانيها وتجلياتها.. بل كنا نعلم أن الأمر مجرد حل وسط بين إكراهات المرحلة (من وعي سياسي شعبي ونضج “معارضاتي” متنام) من جهة، و”تعنتات” وتنازلات العسكر من جهة أخرى. وإنه لمن الزيف اعتبار الديمقراطية منة عسكرية خالصة كما يسوق المرجفون هذه الأيام. فالوعي السياسي (المتراكم منذ أواخر الستينيات) وعدوى الجوار (الجنوبي) وانسداد أفق التغيير، وتوقف ماكنة التنمية، وترسخ “ثفاقة المعارضة”، واقتناع الغرب بأن مستقبل النفط ومحاربة “الإرهاب” ومواجهة الهجرة السرية كلها مرهونة بالاستقرار السياسي في البلاد، أمور – من بين أخرى- أرغمت العسكر على التفكير في دمقرطة المسار، ولو شكليا.. وبما أن النخبة ظلت مُـجْـمعة على أن الديمقراطية مسلسل تدرجي أساسا (كما يشهد تاريخ البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة)، وأن إبعاد العسكر عن السلطة يتطلب نوعا من التدرج (لتحاشي الصدام)، تــَــــم الاعتراف (على جميع المستويات) بنتائج الانتخابات الرئاسية على اعتبار أن البلاد قطعت خطوات مهمة، بأقل فاتورة، وفي ظروف طبعتها السلمية؛ فاكتسبت هيئات دستورية وتقاليد في الشفافية وسمعة دولية قلّ لها نظير، ينضاف إلى ذلك أنها تقدمت الركب العربي وأصبحت في مقدمة القافلة الافريقية. وكانت البلاد على وشك التحول الجذري من التخلف الفكري المطلق إلى التقدم الفكري النسبي (الرأي والرأي الآخر على مستوى الإذاعة مثلا، حرية الاختيار التي كادت تتجذر حتى في الأرياف)، وكان من المنتظر صقل تجربتنا الديمقراطية على مدى مأموريتين على الأكثر، خاصة أن صاحب المأمورية الحالية (الرئيس الشرعي) واحد من أكثر الرؤساء تفهما ومرونة وصبرا على وخز الإبر.
سطحي جدا من كان ينتظر مأمورية كلها حسنات؛ فالتجربة الفرنسية (وهي مثال في الديمقراطية عكس ما يقول متزلفو الصنم الكنود) شهدت خمس تغييرات أو تحولات دستورية كبيرة، وكان الفرنسيون – إلى غاية الثمانينات- يسدُّون الثغرات القانونية والتنظيمية خلال كل مأمورية؛ لأن الديمقراطية لا تكشف عما فيها من خلل إلا بالممارسة، لكن خللها، مهما كانت طبيعته، يتم التغلب عليه ديمقراطيا ومن خلال الممارسة الديمقراطية بعيدا عن العنف وتنظيف البيت الديمقراطي بمكنسة الجيش.
لقد عول الصنم الكنود على “المساندين الأزليين” وملف الارهاب؛ فبـ”المساندين الأزليين” أخرج المظاهرات المزيفة المؤيدة في شوارع البلاد، وبـ”المساندين الأزليين” صنع أبواقا (وهم بالمناسبة يصلحون لأن يكونوا كل شيء يطلبه الحكام: مرآة، بعرة، مايكروفونا، سلحفاة، قميصا، قنينة، قصيدة، سوطا…)، وبهم دافع عن نفسه في الجزيرة (!)، وبهم وجد من النقابات السائبة ما أيد تمرده، وبهم طوع الإذاعة والتلفزة وألهب مشاعر أصحاب المبادرات ممن ناموا سنة كاملة، وبهم أخاف الأقلام الحرة وأذل الأفواه الشريفة. أما ملف الإرهاب فحاول تسويقه للغرب معتمدا على تديـّــن الرئيس (بناؤه لأول مسجد في الرئاسة) واعترافه بحزب للاسلاميين… لكن الصنم الكنود لم يدر أنه إنما حطم نفسه بنفسه من خلال هذين العنصرين الواهيين (المساندين الأزليين وملف الإرهاب). فلا أحد في دوائر القرار الغربية إلا ويعرف (من خلال تقارير بعثاته الدبلوماسية) أن مؤيدي الانقلاب مؤيدون بطبيعتهم، مصفقون بطبيعتهم، انتهازيون بطبيعتهم، يبيعون ضمائرهم بطبيعتهم، يكرهون الإصلاح بطبيعتهم، يعيشون على الفساد بطبيعتهم، أيدوا كل الاحكام المستبدة، وفي أحلك مفاصل تاريخنا، لم يعرفوا الرفض أبدا، قادرون على تبرير الشيء ونقيضه عند الطلب، يـُـلــَـمّـعون القوي خوفا وطمعا، لا تهمهم إلا جيوبهم ومناصبهم وصفقاتهم، لا يعرفون الرحمة ويجابهون العدالة، وبأموالهم ومكاناتهم وتحليلاتهم وترهيباتهم وفتاويهم يقودون جحافل الرجعيين وغثاء المتمصلحين. كما تعرف نفس الدوائر الغربية (المتحكمة في مصائر الشعوب) أن معارضي الانقلاب هم القوى الحية من كادحين، وإسلاميين (ديمقراطيين)، وناصريين، وجماعات الحر، وأصحاب القضايا الوطنية، والمبدئيين من الحركات ذات التوجهات الأيديولوجية المختلفة. وتعرف أن هؤلاء هم من عانوا من أجل المساواة، هم من يحملون الهم العام على أكتافهم منذ عشرات السنين، هم من سُـجنوا وعذبوا وقتلوا من أجل الانصاف والعدل والشفافية والتعددية، هم من يمتلكون تقاليد المعارضة الهادفة، هم من سجل لهم التاريخ الوقوف ضد الهمجية والغطرسة وحكم الفرد، هم من دافعوا عن ملفات حقوق الإنسان وهم من انتزعوا ما وصلنا إليه من انفتاح وإشراك، هم من لن يقبلوا اليوم أن تذهب مجهوداتهم أدراج الرياح، وهم من لن يقبلوا اليوم عودة البلاد إلى نقطة الصفر بسبب تعنت صنم كنود. لذلك فالمنظمومة الدولية، الساعية إلى استقرار موريتانيا ليس حبا لها وإنما حفاظا على سلامة النفط وخط محاربة الارهاب، لم تستمع إلى طروحات “المساندين الأزليين”، وإنما واجهتهم بالصدود والتصامم، فيما أصرت على الاستماع للقوى الحية (المعبر الحقيقي عن طموحات الشعب والقادرة وحدها على ضمان الاستقرار). أما بالنسبة لملف الإرهاب، فالغرب (المسوق له) يعرف أكثر منا أن الرئيس الشرعي (سيدي ولد الشيخ عبد الله) صوفي المنبت والتربية والتوجه، وأن الصوفية عدو تقليدي للسلفية (بمعناها السياسي الجديد)، وأنه ابن مشيخة صوفية عريقة، وأن تدينه يعكس التدين الموريتاني المعتدل. كما يعرف الغرب أن الاسلاميين الموريتانيين (خاصة مجموعة “تواصل”) عبارة عن طلائع ذات مشارب إخوانية، منهجهم الوسطية والاعتدال، يؤمنون بالديمقراطية ويشاركون في بنائها، وأن دعمهم وتشجيعهم يحمل في طياته نوعا راقيا من مجابهة الغلو والتشدد، مع ما فيه من الانصاف والعدالة. وفي هذا الإطار قامت الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية بجهود سريعة ليفهم الغرب أن بيان ولد السمان (المتهم بقيادة السلفية الجهادية في موريتانيا) لم يكن بريئا، فتحامله على نظام “الصنم الكنود” يُـبَــطــّـن تأييدا للرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، علّ الغرب (الساذج بالنسبة لنظامكم الحالي) يفهم أن ولد الشيخ عبد الله صديقا للإرهاب، وبالتالي يلجأون إلى “عزيز” بوصفه عدوا للإرهاب.. لكن الجبهة كانت بالمرصاد فأفسدت اللعبة موضحة أن بيان ولد السمان (بكل تفاصيله) عمل استخباراتي بحت عمد إليه المجلس “الأعلى” وهو يتخبط خوفا من الغرق في بحر لجي من الضغوطات الداخلية والخارجية.
أما ما لم يفهمه الصنم الكنود، وربما لن يفهمه إلا بعد ثمانية أشهر على الأقل، فهو أن الغرب لا يهتم بموريتانيا، ولم يكن ليعبأ بها لولا أنها تشكل اليوم فرصته السانحة للتوبة الشكلية من بعض جرائمه في العراق وافغانستان وغيرهما. فالغرب يعتبر أن الصدفة أهدته هذا الانقلاب ليجعل من موريتانيا بـُـركة (رخيصة الثمن) يستحم فيها من وسخ عنفه وغطرسته في أجزاء أخرى من المعمورة؛ فهو سيرفض الانقلاب حتما وسيضغط من أجل عودة الشرعية فقط ليرى العالم أن له بقية أخلاق وأنه ما يزال “محبا للسلام”، “مباركا للديمقراطية”، “مؤيدا لحقوق الشعوب في اختيار حكامها”.. وفي هذا الصدد يحسب الغرب ألف حساب لانتصاره في “معركة الغسيل” هذه. هذا مع علمه أن مستقبل أمل النفط (القائم حتى اللحظة)، وخطط محاربة الإرهاب، واستراتيجيات مجابهة الهجرة السرية، وضرورة الانتباه لتنامي الرفض الداخلي، أمور تتطلب نظاما سياسيا مستقرا، شرعيا، وذا كفاءة. لهذا يكون الصنم الكنود، باعتماده على الغرب (من خلال “المساندين الأزليين” وملف الإرهاب) قد وضع حدا نهائيا لتاريخ الأحكام العسكرية الموريتانية عموما ولحكمه الشخصي خصوصا، فاستحق بذلك، وبجدارة يشكر عليها، عنوان كتاب فوكوياما: “نهاية التاريخ والانسان الأخير“.