يشهد المجتمع العربي وبوتيرة متصاعدة منذ منتصف سبعينات القرن المنصرم إزدياداًَ واضحاًَ في مظاهر إنتشار الإلتزام الديني بين قطاعات جماهيرية غفيرة وتزايداًَ ملحوظاًَ لنفوذ التيارات الدينية على إختلاف اشكالها وتنوع مشاربها الفكرية. ومن هذا إنتشار ظاهرة الحجاب الإسلامي بين النساء, والإرتفاع الملحوظ في تعداد المساجد ودوام إمتلائها بالمصلين, كذلك إقبال أعداد متزايدة من الأجيال الشابة على الإلتزام باداء الشعائر الدينية كالصلاة والصوم والحج والعمرة, الخ. ومن ناحية أخرى تبرز هذه الظاهرة في إكتساح قوائم الإسلاميين لأية إنتخابات برلمانية أو نقابية او طلابية تجري بصورة نزيهة وبعيداًَ عن تلاعب السلطات.
وقد إستبشر الكثيرون خيراًَ بهذه الظاهرة التي اطلقوا عليها وصف “الصحوة الإسلامية” وإعتبروها دلالة على عودة الامة لأصولها الثقافية وإنتمائها العقيدي, بل ذهب البعض لإعتبارها بداية الطريق نحو إعادة إحياء الحضارة الإسلامية وأمجاد العرب والمسلمين وعلامة على إنتهاء العصر الإستعماري الثقافي والسياسي و ضرورة عملية للتحرر من التبعية للأجنبي.
غير أنه وبعد مرور عقد من الزمان على إقبال الناس على إحياء سنن اللحية والسواك وإنتشار الحجاب بين النساء وإلى الإكثار من زيارة بيت الله الحرام وكذلك الإلتزام بالصلاة والصيام, الخ, لم تبرح “إسرائيل” مكانها وما زالت خنجراًَ مغروساًَ في قلب هذه الأمة, وأمريكا تعربد في الخليج وتنهب ثرواته منذ حين وتحتل العراق وتسوم أهله العذاب, وبوادر الحروب الأهلية وتفكك المجتمعات على الأبواب, والفجوة تتزايد وتتسع بين الطبقات, و الحكومات الظالمة العميلة التي لا تحكم بشرع الله لا زالت جاثمة على الصدور, وبإختصار احوال الامة تسير من سيئ إلى أسوأ, وليس هناك من بوادر خير تجوب في الأفق.
فأين الخلل؟؟. لا يمكن أن يكون الخلل كامناًَ في الدين, فهذا الدين هو نفسه الذي وحد العرب وجعل منهم اسياد العالم وصناع أعظم حضارة في تاريخ البشرية وقهاراًَ لأعظم الأمبراطوريات العالمية واكثرها سطوة وبطشاًَ… ولكن, هل إستطاعت هذه “الصحوة الإسلامية” أن تنفض غبار التاريخ عن هذا الدين وتعيده حياًَ في النفوس!! والجواب برأيي المتواضع لا.
فما يطلق عليه بالصحوة الإسلامية الحالية ليست في حقيقتها بأكثر من غفوة دينية عميقة نجحت نعم في بث العاطفة الدينية وحب الله والرسول في قلوب الناس, إلا أن جوهر رسالة الإسلام الحقيقي الذي حمل هذا الرسول رايته قبل أربعة عشر عاماًَ مبتدءاًَ دعوته بكلمة إقرأ وبالدعوة للتفكر والتعلم وإعمال العقل ومحولاًَ به الرعاع من بني قومه إلى “خير أمة أخرجت للناس” وموحداًَ به تلك القبائل والأمصارالممزقة والتي لم تعرف للوحدة شكلاًَ من قبل ومساوياًَ به بين العبيد وساداتهم ومقراًَ به أن “للفقراء حق في اموال الأغنياء” وانه “ليس منا من بات وجاره جائع” ومؤسساًَ لنظام سياسي يقوم على “أن الحاكم راع ومسؤول عن رعيته” وأن “أمرهم شورى بينهم” وأن الجميع حكاماًَ ومحكوميين متساوون أمام القانون “لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.
هذه المبادئ والمفردات, الوحدة, المساواة, الشورى, العلم, توزيع الثروة, الشفافية, العدالة الإجتماعية, المساواه أمام القانون والتي تمثل روح الإسلام وجوهر رسالته تكاد تكون قد غابت تماماًَ من خطاب “الغفوة الدينية” التي نعايش ايامها.
حين كانت الصحوة, صحوة…..جيل الصحوة 1885م-1954م
لو رجعنا للبدايات الفكرية لدعوات إعادة إحياء فهم الإسلام والإلتزام به أيام الرعيل الاول من دعاة الصحوة الإسلامية, محمد عبدة والأفغاني والكواكبي ومحمد رشيد رضا وشكيب ارسلان وحسن البنا وغيرهم, لوجدنا أنه كان للمفردات النهضوية اعلاه نصيب الأسد من مؤلفاتهم وأطروحاتهم .
فمفكر مثل شكيب ارسلان مثلاًَ وفي كتابه “لماذا تأخر المسلمون” الصادر سنة 1939م يرجع تأخر المسلمين وبشكل اساسي لإهمالهم مواكبة عجلة التقدم العلمي التطبيقي في العالم, أما الكواكبي في كتابه “طبائع الإستبداد” الصادر سنة 1900م فيرجع عوامل التخلف إلى إستبداد النظام السياسي عبر قرون طويلة من عمر الامة و يناقش اثر ذلك على تراجع حركة الإجتهاد الديني ومواكبة التقدم العلمي, ومما يقوله في هذا الكتاب “لقد تمحص عندي أن اصل الداء هو الإستبداد السياسي ودواؤه هو الشورى الدستورية” وللكولكبي كتاب اّخر بعنوان “أم القرى” والصادر في سنة 1889م يحدد فيه أنه لا نهضة بغير تاسيس دولة وحدوية جامعة للامة.
أما الإمام محمد عبده والذي يعتبر بحق مهندس حركة التجديد الديني المعاصر كما يسميه المفكر المعاصر محمد عمارة, فقد حاول في كتابه “رسالة التوحيد” الصادر سنة 1885م التركيز على محاولة إصلاح مناهج الفكر لدى المسلمين من خلال تنقية العقيدة من شغب وخلافات المدارس الفكرية الإسلامية المختلفة وبناء منهج حداثي عقلاني في التعامل مع القراّن والسنة.
وقد خلف المفكر الإسلامي محمد رشيد رضا شيخه وأستاذه محمد عبده وسار على دربه وكرس رضا صفحات مجلته “المنار” (وهي من أوائل الصحف المطبوعة في العالم العربي 1898م-1935م) لنشر أعمال محمد عبده, وكذلك عنيت المجلة فيما عنيت بإصلاح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات الشائعة في المجتمع, واهتمت بالدعوة لإصلاح مناهج التربية والتعليم بإعتبارها جوهر دعوة الإصلاح ووقفت إلى جانب دعوات تحرير المراة في نطاق الشريعة الإسلامية وهاجمت التقليد الاعمى للغرب.
وقد كان يكتب في المنار نخبة من ألمع الإصلاحيين الإسلاميين كمحمد عبده نفسه ومصطفى صادق الرافعي وشكيب ارسلان ورفيق العظم وغيرهم.
وبعد وفاة محمد عبده اكمل رضا تفسير القراّن الكريم من حيث توقف محمد عبده عند سورة النساء, وبعد وفاة محمد رشيد رضا حمل الراية اكثر تلامذته تأثراًَ به وهو الشيخ حسن البنا والذي خلف أستاذه في رئاسة تحرير المنار, ومن الملفت للنظر أن البنا أكمل تفسير القراّن من حيث إنتهى أستاذه رشيد رضا, الأمر الذي يشير إلى الترابط الفكري الوثيق بين عبده – رضا – البنا.
وحين اسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928م كان كتاب رسالة التوحيد لمحمد عبدة من أهم الكتب التي تدرس داخل الأسر الأخوانية. وقد ركز البنا على نقد الافكار الواردة من الغرب والدعوة
إلى إعادة بناء الشخصية الإسلامية وإعادة صياغة العقل المسلم عن طريق الإستفادة من العلوم الوافدة وفي نفس الوقت التمسك بالأصالة الثقافية والمفاهيم الفكرية والفقهية الإسلامية في مواجهة حملات التغريب ودعوات تفوق الحضارة الغربية السائدة حينها في عصره. وللبنا العديد من المؤلفات اشهرها كتاب “الرسائل” وقد اغتالته مخابرات الملك فاروق في فبراير من العام 1949م. رحمه الله.
نتابع في الحلقة القادمة…..
الفترة الإنتقالية…من الصحوة إلى الغفوة 1954م – 1971م المرحلة الثالثة…عصر الغفوة 1971م – الاّن