كان يطلق على الدولة العثمانية أواخر أيامها وهي تمر بلحظات التداعي “بالرجل المريض” إذ أنها كانت من القوة والمنعة بحيث لا توصف، فقد امتدت شمالا حتى وصلت روسيا وجنوبا حتى اليمن وبعضا من الشرق والغرب ، ولكن الأيام تداعت عليها، نتيجة اتساعها وبروز دعوات مختلفة الاتجاه ومتشابكة التفكير من قومية إلى مذهبية إلى مطامح مختلفة لدى قياداتها ، مما مهد لتفكيكها وجعلها تنزوي حتى العودة إلى جذورها في تركيا، الوصف هذا ينطبق على صانع القرار اليمني ، فهو وإن بدا مفعما بالحيوية والنشاط ، والرشاقة المصطنعة ، والشد المتقن للوجه والملامح المتجعدة ، إلا أن ثمة خمول معنوي وذاتي بدا يضعف من قدرته على مقاومة ملامح هزائم قادمة لا محالة ، تعكسها مخاوف مستقبل شبكه ولم يستطع كما يبدو اليوم تفكيكة ، فصانع القرار الذي اعتاد إخضاع المنافسين له وجعلهم كروت تؤدي مهمة الاحتراق شغفا ببقاءه، لم يعد قادرا على إتقان ذات اللعبة القديمة المتمثلة في صنع المتناقضات وضربها ببعضها كي تؤدي نتيجة إبقاءه في حالة وجود واستدامة ، إذ يبدو للملاحظ أن هذه الأفكار والممارسات لم تعد تؤدي النتائج المعتادة ، لسبب بسيط هو أن تلك الأفكار لم تعد صالحة لزمن اليوم ، وإن فرضت بالقوة بعد أن كانت تأتي طواعية تحت عناوين وطنية ، وهي دليل واضح أنها لم تعد مستساغة لدى الشعب وخصوصا قواه السياسية الملعوب بها سابقا ، والمحروقة إبان تلك القوة ، والمنعة ، لأن الزمن الحاضر والمستقبل كذلك يحملان معهما أفكارهما المتجددة ، والحياة تتطور ، والوعي الشعبي وإن كان مغيبا ، لكن وسائل تكنولوجيا الإعلام الحديثة والعصر بمتغيراته خلقت لديه وعيا ن وفرضته فرضا بأسلوبها الناعم المغري الذي لم يعد بإمكان أحد مقاومة إغراءه ..!!
والقوى السياسية المعارضة التي كانت كروتا محروقة ، أضحت قوى واعية وذكية ، ومدركة ، ولم تعد تشعر بضرورة التبعية إلا من الزاوية التي تكون فيها مصلحة الوطن هي الحاضرة ، وحين ينتوي صانع القرار الإضرار بها عمدا ، وذلك ما يفسر الرضوخ على مضض ، والقبول على كراهية من باب “إلا من أكره وقلبه مطمئن ” .
إلا أن الخطورة المتمثلة في ذلك ، أن ثمة قوى خفية تحوم حول تركة ” الرجل المريض” كنسور حائمة تنتظر وقوع فريسة أنهكتها مخالب النهش كي تسقط لتنقض عليها ، وهي قوى طفيلية ، هي التي حرفت مسار الإصلاح المنشود ، وعرقلت الحوارات ، وشكلنة الديمقراطية ، وزادت من تأجيج حالة نقص المناعة في جسد نظامه السياسي، وجعله عاقرا عن إنتاج ممكنات التعافي ، وإفراز المناعة الحقيقية فيه ، والمتمثلة في توطين الديمقراطية كثقافة وسلوك، والسياسة كالتزام وأخلاق وإصلاح ، تجاه الشعب وقواه السياسية ، السياسية كإفراز لاتفاقيات يجب احترامها حتى لاتنجر البلاد نتيجة السير منفردا في هاوية الفوضى.
هذه الطفيليات هي من تمتص الثروات ، وتصادر الحقوق ، وتلتف على خيارات الإصلاح المطلوب شعبيا ، وتهيء مناخات الحروب والصدام. إنها في الوقت الذي تبدو فيه مخلصة للرجل ، إلا أن إخلاصها ماكرا ، فهي تدرك مدى ما وصلت إليه الأوضاع ظاهرة وخفية ، وهو إخلاص يأتي من باب التخلص على ما تبقى من مصداقية وطنية وقوة لديه ، لكي يسقط الأمر في يديها بسلام آمنين ، ولذلك فهذه القوى تدفع به نحو إضعاف القوى السياسية الحية ذات المشروع الوطني ، من خلال عدم التزام خط الاتفاقيات الناتجة عن حواره معها ، والانقلاب على ما تم الاتفاق عليه ، كي تفقد الشعب بقدرة هذه القوى تحقيق مطالبها وانتزاع انتصارات في صالحه وصالح الهامش الديمقراطي في البلاد ، وحتى تأتي لحظة الانقضاض تلك على ” تركة الرجل المريض” ربما، يكون الشعب قد وصل إلى اليأس من كليهما :السلطة والمعارضة في التغيير وإصلاح وضعه ، وبالتالي يكون البديل انقضاضا فاعلا له نتائج متطابقة مع ما تخطط له تلك القوى ، لأن يأس الشعب يقود إلى تقبل أي جديد ولو كان ذلك الجديد ارتداديا وإلى الوراء حيث يكمن الأسوأ
*كاتب صحفي يمني