بقلم نقولا ناصر*
لا يمكن ان يكون الاردن غير معني بانحلال منظمة التحرير الفلسطينية او باي انقلاب
بقلم نقولا ناصر*
لا يمكن ان يكون الاردن غير معني بانحلال منظمة التحرير الفلسطينية او باي انقلاب عليها يقود الى الغاء دورها المعترف به عربيا ودوليا كممثل شرعي وحيد لعرب فلسطين ، ليس فقط صيانة للتضحيات التي قدمها الشعب الشقيق لتحقيق هذا الانجاز بل قبل ذلك لان أي تطور كهذا سيكون المقدمة المؤكدة لدخول القضية الفلسطينية في نفس المتاهة التي كانت فيها قبل انشاء المنظمة بكل ما يعنيه ذلك من مضاعفات ذات مخاطر استراتيجية على الاردن وجواره القومي ، ولانه سيكون كذلك المقدمة الموضوعية لاحياء فكرة اختيار الجار الاردني الاكثر تاهيلا ، بحكم عوامل جيوبوليتيكية قاهرة ، لوراثة دور المنظمة في حمل اعباء قضية اعجزت اهلها ومعهم العرب جميعهم حتى الان ، وبالتالي فان الاردن لا يمكن الا ان يكون معنيا بالمتاهة التي تعيشها منظمة التحرير حاليا ، فالوضع الراهن للمنظمة وشعبها لا يغيظ عدوا ولا يسر شقيقا او صديقا .
ان الواقع على الارض قد اسقط الى غير رجعة الخيار “الاسرائيلي” لاي دور اردني مامول اسرائيليا في الضفة الغربية حسب المفاهيم الاسرائيلية السابقة ، بحيث لم يبق للاردن عمليا سوى خيار ان يصد المحاولات الاسرائيلية الساعية الى ان تفرض عليه احتواء الانقاض الفلسطينية لانهيار “عملية السلام” الذي بذل الاردن قصارى جهده ، وما يزال ، لانجاحها ، مثلما فرض عليه احتواء انقاض النكية الفلسطينية عام 1948 بكل مضاعفاتها السياسية والانسانية ، لكن الظروف التي املت عليه احتواء حطام النكبة انذاك قد تغيرت جذريا الان تغييرا يحصنه ضد أي تكرار للتجربة الاردنية والفلسطينية المرة بحيث لم يبق للاردن سوى خيار وطني وحيد اوحد هو رفض الخيار او الخيارات الاسرائيلية التي توصف تضليلا ب”الاردني” و”الاردنية” وهي بضاعة اسرائيلية خالصة ، صناعتها اسرائيلية صرف .
ويكفي ذكر تطورين استراتيجيين لاثبات ان الشروط الموضوعية التي كانت تجعل خيار اسرائيل “الاردني” ممكنا في السابق قد اصبحت مستحيلة الان ، واول التطورين مادي على الارض وهو حقائق الاستيطان الاستعماري التي خلقه الاحتلال الاسرائيلي في الضفة الغربية منذ عام 1967 وهي حقائق لم تبق حدا ادنى من المقومات لاقامة الدويلة الفلسطينية المامولة عن طريق التفاوض ، وبالتالي فانها لم تبق شيئا ايضا في الجناح الغربي السابق للمملكة يعود الاردن اليه ، لا بل ان هذه الحقائق تكاد لا تبقي للاردن أي جار فلسطيني على حدوده الغربية .
وثاني التطورين سياسي ، فالاردن قد تكيف مع الاعتراف العربي والدولي وحتى الاسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد لشعبها تحت الاحتلال وخارجه مسؤول عن تقرير مصير الضفة الغربية كجزء من الاراضي المحتلة عام 1967 ولم يعد في الاردن من يرغب او يسعى للقفز عن هذه الحقيقة السياسية التي حكمت الحراك السياسي العربي والدولي طوال الاربعين سنة ونيف الماضية .
لكن مؤشرات كثيرة تترى الى ان دولة الاحتلال الاسرائيلي بقدر ما تسعى الى تغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي في الضفة تغييرا استراتيجيا ينسف معادلة الارض مقابل السلام التي جرت على اساسها المفاوضات منذ عام 1991 بقدر ما تسعى كذلك لتعزيز كل العوامل التي تقود الى نسف الحقيقة السياسية لمنظمة التحرير ودورها ، ويجد الاردن نفسه معنيا مباشرة في الحالتين لان نجاح دولة الاحتلال في المسعيين سوف يقود عمليا الى نسف الشروط الموضوعية التي قادت صانع القرار الاردني الى توقيع معاهدة السلام معها ويقود كذلك الى نسف الاهداف التي توخاها من توقيع تلك المعاهدة .
ولا غرابة نتيجة لذلك ان تبدو الحقيقة السياسية لمنظمة التحرير الان قد هرمت وبهت دورها ، بينما تتوالى الدلائل والقرائن والمؤشرات الى ان “انقلابا” يجري عليها من الخارج والداخل معا لتصفيتها كدور ، مع الابقاء عليها اسما بلا مسمى كاطار ، لاستثمار شرعيتها في اضفاء الشرعية على تسوية سياسية بشروط اسرائيلية – اميركية تصفي القضية نفسها التي سوغت انشاء المنظمة في المقام الاول وتنهي الصراع العربي الاسرائيلي ، وهذا بالتحديد هو المعبر الموضوعي الى “الخيارات الاردنية الاسرائيلية” .
ان البديل والوارث الشرعي الوحيد للمنظمة الذي يوجد توافق وطني فلسطيني عليه هو قيام دولة فلسطينية “كاملة السيادة” ، وكل النهج السياسي الاردني الرسمي يؤكد باستمرار انه مع هذا التوافق الفلسطيني ، ويكرر باستمرار التزامه بمنظمة التحرير وباقامة الدولة الفلسطينية معا ، لذلك فان ما يجري من حراك لاستبدال المنظمة بحكومة لسلطة الحكم الذاتي هي الان في اضعف حالاتها بينما افاق تطويرها الى دولة قد وصلت الى طريق مسدود انما هو بالتاكيد تطور يتعارض مع الموقف الرسمي الاردني ، ومع ذلك فان الدبلوماسية الاردنية مدعوة لتاكيد هذا التعارض منعا لسوء الفهم وقطعا للطريق على أي محاولات للاصطياد في مياه عكرة .
ومما يزيد الطين بلة ان حكومة السلطة الحالية هي الاضعف والاقل تمثيلا لشعبها بين كل سابقاتها وتستمد شرعيتها من شرعية وطنية مجتزاة هي شرعية الرئاسة المنتخبة التي تعيش اواخر ايام ولايتها ، ولا يبقيها عائمة سوى كونها الاكثر تساوقا مع شروط المانحين وهي نفسها شروط الاحتلال التي تبناها المانحون لها بحذافيرها ، وجدول اعمالها الاقتصادي يقرره المانحون ويحصرونه في الرواتب والامن بينما يقرر جدول اعمالها الامني المجلس الثلاثي للجنرالات الاميركيين وليم فريزر وجيمس جونز وكيث دايتون ، وهو المجلس الذي يمثل المرجعية الحقيقية لبرنامج هذه الحكومة والذي يضع في راس جدول اعماله تصفية كل المعارضين للرؤية الاميركية – الاسرائيلية لحل الصراع وفي مقدمتهم بالطبع منظمة التحرير وحركة فتح في الخارج وامتداداتهما الداخلية بخاصة وحركة حماس في الداخل على الاخص .
ان الصراع غير المعلن بين سلطة الحكم الذاتي وبين مرجعيتها منظمة التحرير الفلسطينية ، وفي اطار كل منهما على حدة ، بين تيارين يصطرعان داخل حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” على قيادة السلطة والمنظمة وعلى دوريهما ، وبين فتح “الداخل” وفتح “الخارج” وبين فتح اوسلو وفتح المعارضة لاوسلو ، وبالتالي بين المنظمة في الداخل وبين المنظمة في الخارج ، هو صراع يذكر بدوري جولد ، سفير اسرائيل الاسبق لدى الامم المتحدة واحد اهم مستشاري رئيس وزراء دولة الاحتلال السابق ، ارييل شارون ، السادر في غيبوبته منذ بضع سنوات والذي اورث سياساته لخلفه ايهود اولمرت ولحزب “كاديما” الذي يقود الائتلاف الحاكم حاليا ، عندما حث في دراسة له بعنوان “الضفة الغربية لاسرائيل” عام 1987 على تطوير سلطة للحكم الذاتي الفلسطيني تحل محل منظمة التحرير كممثلة للشعب الفلسطيني وتفرز قياداتها المحلية في الضفة وقطاع غزة كبديل لقيادات المنظمة لتوقع في النهاية باسم الشعب الفلسطيني على انهاء الصراع مع دولة الاحتلال ، ولا بد من الاعتراف لدوري جولد ببعد النظر وبان رؤيته المبكرة تكاد تتحول الان الى واقع سياسي .
لذلك فان الصراع – الانقسام بين السلطة وبين المنظمة اقدم واخطر من الانقسام الراهن بين فتح وبين حماس ، لا بل انه كان الانقسام الذي فتح ثغرة واسعة في دور المنظمة دخلت منها حماس كبديل لطرفي الاصطراع الذي يوظف الصراع الفتحاوي – الحمساوي للتغطية على “الانقلاب” الحقيقي الجاري في الساحة الفلسطينية برعاية اميركية – اسرائيلية معلنة ، والذي يجري التعتيم عليه كشرط لازم لانجاحه . وفي هذا السياق يندرج ما يدور من صراع وجدل حول انعقاد او عدم انعقاد المؤتمر الحركي السادس لفتح وحول مكان وزمان انعقاده ان اتفق على عقده ، وحول انعقاد او عدم انعقاد المجلس الوطني لمنظمة التحرير كما حول مكان انعقاده في “الداخل” او في “الخارج” ناهيك عمن يحضره — ان اتفق على انعقاده ، ثم ردود الفعل على مصادقة الرئيس محمود عباس على تعيين رئيس للدائرة العسكرية للمنظمة من غير الاعضاء الاصلاء في اللجنة التنفيذية ومن غير ممثلي الفصائل الكبرى فيها ، وكذلك السجال العلني بين مستشاري الرئيس عباس وبين رئيس كتلة فتح في المجلس التشريعي للسلطة عزام الاحمد حول توقيع الاخير لاعلان صنعاء كتتويج للمبادرة اليمنية تم اجهاضه خلال دقائق بعد توقيعه ، وكذلك حول وجود “فيتو” اميركي على الحوار بين فتح وبين حماس ، كما قال الاحمد ، او عدم وجود مثل هذا الفيتو كما كرر عباس نفسه القول ، الخ .
والدليل الملموس الاحدث على التوجه لالحاق المنظمة بحكومة السلطة ، التي تستمد تفاصيل سلطاتها من مصادقة الحاكم العسكري للاحتلال الاسرائيلي عليها (بموجب الاتفاقيات الموقعة) ، كان مبادرة حكومة سلطة الحكم الذاتي الى اشتراط مصادقتها والرئيس عباس على هيكليات مؤسسات المنظمة كشرط مسبق لصرف رواتب موظفيها ، وقد جاء هذا التطور متاخرا لكنه كان تحصيل حاصل لحلول وزارة مالية السلطة محل الصندوق القومي الفلسطيني كمصب لتمويل منظمة التحرير وسلطتها مما حول خزينة السلطة الى قناة لتمويل المنظمة فارتهنت المنظمة بذلك للسلطة ولمنح مانحيها المشروطة سياسيا بشروط املاها الاحتلال نفسه .
لقد افرز الانقسامان الاقدم والاحدث قوة او قوى “ثالثة” لم تتبلور وطنيا بعد في اطار سياسي معلن وواضح لكن اركانها وسياساتها واضحة تماما في تقاطعها بل تطابقها مع “الرؤية” الاميركية – الاسرائيلية لتسوية الصراع سياسيا ، او تصفيته لا فرق ، وهذه القوة او القوى متداخلة مع تيار ينسجم معها في فتح والفصائل المؤتلفة معها في اطار منظمة التحرير ، وهي تسعر كلا الانقسامين ، لانها الوحيدة المستفيدة من استمرارهما ، وتناور بينهما وتقتطع لنفسها يوميا نفوذا متناميا على حسابهما فهي ، لا فتح ، التي تتولى عمليا مقاليد حكومة الحكم الذاتي في رام الله ، وتسعى الى السيطرة على مؤسسات صنع القرار في فتح والسلطة والمنظمة ، بينما تحرص على استمرار حصار حماس سياسيا واقتصاديا وعسكريا بسبب عدم توفر الامكانيات العملية التي تتيح لها تغلغلا مماثلا في صفوفها ، بحيث يكاد يكون هذا هو الانقلاب الفعلي الذي يستحق هذا الوصف على الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وعلى كل مؤسسات اطراف انقساماتها الحالية ، فيما تنشغل هذه الاطراف في الفعل ورد الفعل على الانقسامين وتشغل معها الاشقاء العرب في البحث عن طرق ووساطات لاحتوائهما .
وهذا الوضع المعكوس الذي يتطور للعلاقة بين السلطة وبين المنظمة يتناقض تماما مع القرار الواضح الذي اتخذه المجلس المركزي الفلسطيني في دورته المنعقدة بتونس بين 10 – 12 تشرين الاول / اكتوبر 1993 بانشاء “السلطة الوطنية الفلسطينية” كسلطة تابعة لمرجعية المنظمة التي انشاتها ، وهو وضع يضع عربة قيادة منظمة التحرير امام حصانها في وضع خطر يهدد فيه أي انهيار للسلطة بانهيار المنظمة ذاتها ، وربما يكون هذا هو الهدف النهائي للتحالف الاميركي الاسرائيلي الذي يشجع ويمول تغول السلطة وحكومتها على منظمة التحرير ، لضرب الطرفين ببعضهما تمهيدا لتصفية “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” المعترف به عربيا ودوليا .
ولم يعد خافيا على احد ان استمرار هذا الانقسام الفلسطيني الاقدم والاخطر يمثل العقبة “الداخلية” الاكبر امام نجاح أي حوار وطني بين فتح وبين حماس وان حسم هذا الانقسام الاقدم هو شرط مسبق لانهاء الانقسام الراهن بين الحركتين اللتين تقودان النضال الوطني ، وخير دليل على ذلك الطريق المسدود الذي وصلته ثلاث سنوات تقريبا من جولات الحوار وسلسلة الوساطات العربية وغير العربية بين الحركتين والذي لخصته “الاهرام الاسبوعي” باللغة الانكليزية في عددها الاخير الصادر في الثامن والعشرين من الشهر الماضي في عنوان تقريرها الرئيسي: “لا تقدم على الاطلاق” ! والمفارقة ان حماس غير العضو في المنظمة وهي تطالب بتفعيلها على قاعدة الشراكة الوطنية وفقا لاتفاق القاهرة تبدو “خشبة النجاة” الرئيسية لانقاذ المنظمة من التصفية التي تخطط لها كما انها تبدو اكثر حرصا على المنظمة ممن يستخدمون المنظمة ومرجعيتها سلاحا ضدها .
ان النجاح الساحق الذي حققته حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 لم يكن هزيمة لفتح بقدر ما كان هزيمة مرة لمنظمة التحرير بكل فصائلها الاعضاء وهزيمة لبرنامجها السياسي ومن هنا الصدمة القوية التي اصابت الائتلاف الدولي الذي يرعى هذا البرنامج دبلوماسيا وسياسيا وماليا باعتباره اساسا عمليا صالحا لتسوية الصراع العربي – الاسرائيلي سياسيا عن طريق المفاوضات ، ومن هنا ايضا الخطا الفادح الذي ارتكبه هذا الائتلاف بتبنيه للاستراتيجية التي تبنتها دولة الاحتلال الاسرائيلي للانقلاب على نتائج تلك الانتخابات التي وجدت تل ابيب فيها فرصة ذهبية اولا للتحلل من استحقاقات العملية السياسية الجارية منذ مؤتمر مدريد عام 1991 والتي انطلقت على اساس ذلك البرنامج ، وثانيا لشق الوحدة الوطنية الفلسطينية وفرز طرف فلسطيني اضعف واسهل ابتزازا واكثر تساوقا مع رؤيتها ل”انهاء” الصراع ، وثالثا لكسب المزيد من الوقت لفرض المزيد من الحقائق الاسرائيلية على الارض لكي يتحول التفاوض على اساس برنامج المنظمة من مفاوضات على تبادل الارض “المحتلة” مقابل السلام الى مفاوضات على تقاسم ارض “متنازع عليها” .
وهذا الخطا الفادح الذي انساق اليه الائتلاف الدولي المؤيد لبرنامج منظمة التحرير انساقت اليه ايضا الدول العربية ، وخصوصا الدولتين المجاورتين الملتزمتين بمعاهدتي سلامهما مع دولة الاحتلال في مصر والاردن ، لكن الاخطر من ذلك ان قيادة المنظمة نفسها قد وقعت في فخه .
وبالرغم من ان القطيعة بين الاردن وبين حماس سابقة على الانتخابات الفلسطينية ولها اسبابها الثنائية وبالتالي فان لاعادة وصل ما انقطع اسبابه الثنائية ايضا ، فان الانفتاح الاردني الاخير على حماس من جانب اخر يشير الى توجه سليم لتدارك ذلك الخطا الفادح يؤهل الاردن لوساطة اكثر نجاعة في الاصطراع الفلسطيني باتجاه مساعدة قيادة منظمة التحرير في تدارك الخطا نفسه الذي وقعت فيه للخروج من الفخ الاسرائيلي عبر الطريق الوحيد المفتوح للخروج من ذلك الفخ وهو اعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية من خلال تفعيل المنظمة على قاعدة الشراكة الوطنية بين مختلف اطياف الاجتهاد الوطني الفلسطيني .
*كاتب عربي من فلسطين