د. رفعت سيد أحمد
في أجواء الفتنة المذهبية المفتعلة والتي يوظفها حلفاء أمريكا وإسرائيل
د. رفعت سيد أحمد
في أجواء الفتنة المذهبية المفتعلة والتي يوظفها حلفاء أمريكا وإسرائيل في بلادنا، لإشغال الأمة عن عدوها الحقيقي المباشر (واشنطن / تل أبيب) تأتي الأهمية العقائدية والسياسية لإعادة إحياء تراث العلماء الكبار من أبناء هذه الأمة، علي الأقل في الستين عاماً الأخيرة، والتي شهدت نشأة وتطور الظاهرة الصهيونية، تأتي أهمية إعادة الاعتبار لفكر ودعوة أمثال الشيخ محمود شلتوت (رحمة الله عليه)، والتي كانت دعوة ليس فحسب إلي التوحيد أو التقريب بالمعنى الضيق والشكلي للكلمة بل هي دعوة للجهاد الحقيقي ضد العدو المباشر للأمة (أمريكا ـ إسرائيل ومن والأهم من أنظمة الاستبداد في عالمنا العربي والإسلامي)، فالرجل أدرك ـ ومعه الحق وصحيح الدين ـ أنه لا يمكن لأمة مثل أمتنا أن تقاوم أو تنتصر علي الغزوة الغربية دونما (وحدة) أو علي الأقل تقارب ينبذ العصبية التي هي بمثابة (السوس) الذي ينخر في جسد أية مقاومة جادة لحلف الأعداء، أدرك الرجل بفطرته وحسن إسلامه واستقامته الفكرية أن للجهاد شروط والتقارب والألفة أو الوحدة هي أنبل تلك الشروط وأولها، فدعى إليها وسعى بين المسلمين بها، وسانده في ذلك المناخ السياسي العام الذي كانت تعيشه مصر والمنطقة العربية والإسلامية إبان عهد عبد الناصر فجاءت دعوته النبيلة إلي التقريب بين المذاهب وجاءت فتواه الأشهر بجواز التعبد علي المذهب الشيعي الإثنا عشري جاءت لتظل نبراساً هادياً للدعاة الصادقين، وللعلماء الحقيقيين الذين يسعون لإقالة أمتهم من عثرتها وليس إلي زيادة الحفر والعثرات في طريقها كما يفعل بعض السفهاء من علماء النفط والسلطة الذين اخترقوا ـ للأسف ـ العديد من مؤسساتنا الإسلامية التاريخية وفي مقدمتها الأزهر الشريف، فهددوا بضياع مجده الذي كان إبان عصر عبد المجيد سليم وشلتوت وأبو زهرة وغيرهم من نجوم الدعوة والهداية في أمتنا.
نعود إلي شيخنا لنتصفح عبر سيرته ومسيرته، بعضاً من صفحات العز التي هي صفحات التقريب والوحدة في تاريخنا المعاصر، في البداية دعونا نذكر أننا لسنا فحسب أمام عالم ذو أفق ووعي سياسي، وذو دور طليعي، بل أيضاً أمام عالم منجز علي مستوى المؤلفات الفكرية والعقائدية الهامة والتي نذكر منها [فقه القرآن والسنة ـ مقارنة المذاهب ـ يسألون ـ منهج القرآن في بناء المجتمع ـ المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية ـ القرآن والقتال ـ القرآن والمرأة ـ تنظيم النسل ـ تنظيم العلاقات الدولية في الإسلام ـ الإسلام والوجود الدولي للمسلمين ـ الإسلام عقيدة وشريعة ـ الفتاوى ـ توجيهات من الإسلام ـ تفسير القرآن].
* * * *
التعبد بمذهب الشيعة الإمامية (الفتوى الأشهر):
أما عن فتواه الأشهر التي أثارت ولا تزال ردود فعل إيجابية علي صعيد الدعوة الإسلامية والتقريب بين المذاهب فهذا هو نصها:
في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية.. عندما سئل: “إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم.. لكي تقع عبادته ومعاملاته على وجه صحيح.. أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة.. وليس من بينها مذهب الشيعة.. فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه.. فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الاثنا عشرية مثلا؟
فأجاب فضيلته:
“إن الإسلام لا يوجب على أحد إتباع مذهب معين.. بل نقول: إن لكل مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب.. المنقولة نقلا صحيحاً.. والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة.. ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره – أي مذهب كان – ولا حرج عليه في شيء من ذلك.
إن مذهب الجعفرية.. المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية.. مذهب يجوز التعبد به شرعا كسائر مذاهب أهل السنة.
وجميع الفقهاء المسلمين اتفقوا على عدم تعارض المذاهب الإسلامية المعترف بها.. وأنه لا يحق لأتباع أي مذهب أن يهاجموا المذاهب الأخرى.. أو يكفروا أتباع هذا المذهب.. وأن هذا الاتفاق تم إقراره في مكة.. ثم في منظمة المؤتمر الإسلامي العالمي.
فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك.. وأن يتخلصوا من العصبية.. بغير الحق لمذاهب معينة.. فما كان دين الله.. وما كانت شريعته تابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب.. فالكل مجتهدون.. مقبولون عند الله تعالى.. يجوز– لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد– تقليدهم.. والعمل بما يقررونه في فقههم.. ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات”.
هذه الفتوى أثارت ولا تزال ردود فعل واسعة، وبالقطع قابلها العقلاء من علماء الأمة بالترحيب الواجب، أما السفهاء من وعاظ السلاطين فلا يزالون رغم علمهم المحدود يهاجمونها مع غلاة المتطرفين في بلادنا الإسلامية لأنها ببساطة تهدم بنيانهم الفكري والعقائدي بالكامل القائم علي زرع الفتن المذهبية والتغذي عليها وعلي فتات فكر الغلو والتكفير المرفوض من نبي الإسلام ونصوص القرآن الكريم.
* * * *
نبذ العصبية:
علي أية حال وبعودة إلي الشيخ محمود شلتوت مجدداً فإننا نستطيع نلتمس دعوته للتقريب.. ونبذه للعصبية المذهبية.. وحبه للوحدة بين المسلمين فيقوله: “إن المتقي لله في مقام ابتغاء العلم.. هو ذلك الذي لا تأخذه عصبية.. ولا تسيطرعليه مذهبية.. ولا ينظر يمينا أو شمالاً.. دون قصده.
كنت أود لو أستطيع أن أصور بنفسي فكرة الحرية المذهبية.. الصحيحة المستقيمة.. علىنهج الإسلام.. والتي كان عليها الأئمة الأعلام في تاريخنا الفقهي.. أولئك الذين كانوايترفعون عن العصبية الضيقة.. ويربئون بدين الله وشريعته عن الجمود والخمول.. فلا يزعمأحدهم أنه أتى بالحق.. الذي لا مرية فيه.. وأن على سائر الناس أن يتبعوه.. ولكن يقول: “هذا مذهبي.. وما وصل إليه جهدي وعلمي.. ولست أبيح لأحد تقليدي وإتباعي.. دون أن ينظرويعلم من أين قلت ما قلت.. فإن الدليل.. إذا استقام.. فهو عمدتي.. والحديث إذا صح فهومذهبي”.
* * * *
أما عن موقفه من الوحدة بين المسلمين وأهميتها فنجده وبتواضع العلماء ووعيهم الرسالي يقول: كنت أود لو أستطيع أن أتحدث عن الاجتماعات في دار التقريب حيث يجلس المصري إلىالإيراني أو اللبناني أو العراقي أو الباكستاني أو غير هؤلاء من مختلف الشعوبالإسلامية، وحيث يجلس الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بجانب الأمامي والزيدي حولمائدة واحدة تدوي أصوات فيها آداب وعلم وفيها تصوف وفقه وفيها مع كل ذلك روح الأخوةوذوق المودة والمحبة وزمالة التعليم والعرفان.
ثم يبين لنا الأسباب التي دعت إلى الفرقة والعصبية ويرشدنا إلى كيفية الخروجمنها والعمل على إزالتها، ليتوحد الصف الإسلامي فيقول: لقد كان أكثر الكاتبين عن الفرق الإسلامية.. متأثرا بروح التعصب الممقوت.. فكانت كتاباتهم.. مما تورث نيران العداوة والبغضاء.. بين أبناء الملة الواحدة.. وكانكل كاتب لا ينظر إلى من خالفه.. إلاّ من زاوية واحدة.. وهي تسخيف رأيه.. وتسفيه عقيدته.. بأسلوب لا يليق بالمسلم.. وشره أكثر من نفعه.. ثم يقول عن الوحدة.. وإنها مطلب أساسيللجماعة المسلمة: “إن الله سبحانه طلب من الأمة الإسلامية أن توحد كلمتها.. فلا تكونشيعا وأحزابا.. يضرب بعضهم رقاب بعض.. وقد استغل المستعمرون أسباب الفرقة بين المسلمينأسوأ استغلال.. ورغم أن المصلحين من المسلمين تنبهوا إلى الأضرار التي تحيق بدينهموبلادهم.. من جراء هذه الفرقة.. فنادوا بوجوب وحدة الصف الإسلامي.. والتخلي عن أسبابالنفرة بين أبناء الملة الواحدة.. والعقيدة الواحدة.. وليست الدعوة إلى تقريب المذاهبالإسلامية.. دعوة إلى لقاء أو غلبة مذهب على حساب مذهب آخر.. ولكنها دعوة على تنقيةالمذاهب من الشوائب.. التي أثارتها العصبيات والنفرات الطائفية.. وأذكتها العقليةالشعوبية… ولقد فهم المسلمون الأولون حقيقة هذا الدين الحنيف.. واختلفوا في فهم نص منكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكنهم مع هذا الخلاف – كانوا يداً واحدة على منعاداهم”.
ثم خلف من بعدهم خلف.. جعلوا دينهم تبعا لأهوائهم.. فتفرقت الأمة إلى شيع وأحزابومذاهب وعصبيات.. واستباح بعضهم دماء بعض.. وطمع فيهم الأعداء.. ومن لا يستطيع أن يدفععن نفسه أذى.. وذهبت ريحهم.. وضعفت كلمتهم.. ولقي الإسلام على يد هؤلاء وأولئك ما لقي مننكبات.. ومصائب.. ولولا قوة تعاليمه.. وصفاء جوهره.. ومنبعه وسلامته.. وطهارة عقيدته..واستقامتها مع الفطرة الإنسانية.. لحرمت الإنسانية من مزاياه وفضائله”.
* * * *
بهذه الوصف الدقيق.. وضح الشيخ شلتوت للأمة الإسلامية المنهج.. الذي يجبأن تستقيم عليه. وكما سبق وأسلفنا فإن الشيخ قد اهتم بالفقه المقارن.. وأنه لم يكن يتعصبلمذهب بعينه.. إلا إذا قوى دليله.. وبانت حجته.. وأنه كان يرى وجوب التقريب بين المذاهبالإسلامية الصحيحة: السنية والشيعية.. توحيدا لصف الإسلام والمسلمين؛ لأن في الاتحادقوة.. وفي التفرق ضعف ومذلة.. والله خلقنا أمة واحدة.. دينها واحد.. ولغتها واحدة.. وقبلتهاواحدة.. ولإيمانه العميق بهذه المبادئ.. في الوقت الذي كانت فيه بذور الخلاف بين أهلالسنة والشيعة موجودة.. حاول بقدر إمكانه هو- ومن سار معه على درب التقريب- قطع بذورالخلاف.. وإحلال بذور الوحدة والتعاون محلها.
وقد حكي الشيخ شلتوت أنه تعرض لهجوم شديد بسبب قيامه بدعوته إلي التقريب بين المذاهب الإسلامية، كما تعرض لهجوم آخر بسبب فتواه بجواز التعبد بمذهب الشيعة الجعفرية، وظلت الأسئلة والمشاورات والمجادلات في شأن هذه الفتوى تتوارد عليه، وهو ثابت علي فكرته يؤيد بالرسائل، ويرد علي شبه المعترضين، عن طريق مقال أو حديث أو بيان.
ولكن مما يدل علي صحة دعوته وقبولها وعدم تعارضها مع الشريعة الإسلامية هو أن الأزهر الشريف نزل علي حكم هذه الفتوى وهذا المبدأ ـ مبدأ التقريب بين المذاهب الإسلامية ـ وقرر دراسة الفقه علي المذاهب الثمانية: الأربعة السنية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية) والشيعة (الزيدية والجعفرية) وكذلك الظاهرية والإباضية (وهي فرقة معتدلة من فرق الخوارج)، كما أن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية اعتمد أيضاً في موسوعته الفقهية المذاهب الثمانية السالفة الذكر.
ويهمنا هنا التأكيد مجدداً علي أن هذا الشيخ المعلم كان له رؤية في أهمية الاجتهاد والتجديد وأن ذلك كان بهدف أساسي بالنسبة له وهو توحيد الأمة الإسلامية.. لا فرق فيها بين أهل السنة والشيعة.. طالما أن الجميع مسلمون.. ويلتزمونالعقيدة الإيمانية الصحيحة.. وكان يقول: “انتهى زمن العصبية.. وهنا يقول الشيخ في إحدى مقالاته المهمة: “ولا أنسى أني درستالمقارنة بين المذاهب بكلية الشريعة بالأزهر.. فكنت أعرض آراء المذاهب في المسألةالواحدة.. وأبرز من بينها مذهب الشيعة.. وكثيرا ما كانت أرجح مذهبهم.. خضوعا لقوةالدليل.. ولا أنسى أيضا أني كنت أفتي في كثير من المذاهب بمذهب الشيعة.. وأخص منهابالذكر ما نجد الناس في حاجة ملحة إليه.. وهو فيما يختص بالقدر المحرم من الرضاع.. كماأخص بالذكر ما تضمنه قانون الأحوال الشخصية من مسائل.. ومنها على سبيل المثال: الطلاقالثلاث بلفظ واحد.. فإنه يقع في أكثر المذاهب السنية ثلاثا.. ولكنه يقع في الشيعة واحدةرجعية.. وقد رأى القانون العمل به..”.
* ولكل ما سبق حظي الشيخ بمكانة علمية فريدة في عصره.. فكان إماما ممتازا فيشخصيته، ممتازا في خلقه.. ممتازا في فطرته الطبيعية ـ وفقاً لمن أرخوا لحياته وفكره .. فاحتل مكانة سامية في فقهالشريعة الإسلامية.. أتاحت له أن يكون المرجع الأكبر في عصره لطلاب المعرفة.. في كل مايتعلق بمشكلات العصر الحديث.. وموقف الإسلام منها.
* * * *
وبعد فلنقس فكر وجهاد هذا العالم الجليل بهؤلاء السفهاء من علماء الصدفة وفقهاء النفط، الذين تمتلئ بهم اليوم حياتنا الدينية والسياسية، ولنسأل سؤالاً بسيطاً ومباشراً: أيهما نتبع حين تلم بالأمة المحن وتطل الفتن السوداء برأسها القبيح؟ هل نستمع لفتاوى الجهلاء والسفهاء، الذين يخدمون بما يقدمونه من ترهات عقائدية يسمونها للأسف ـ فتاوى ـ واشنطن وتل أبيب مهما حسنت نواياهم أو حسن الظن فيهم!! أم نستمع ونتعلم من أمثال هذا العالم الجليل (محمود شلتوت) ورجالات عصره؟ إن الإجابة معروفة سلفاً، ولكننا فقط نؤكد عليها، لأن ما ينتظر الأمة من تحديات وأزمات، يفرض علينا مجدداً أن نحذر من دعاة
الفتن المذهبية والسياسة باسم الدين وهو منها براء، وأن ندعو وبقوة إلي إعادة الإعتبار والتعلم من تجربة وفكر ورؤى وفتاوى العلماء المجاهدين بحق، أمثال فضيلة الإمام الأكبر محمود شلتوت، متمنيين من الله أن يرزق هذه الأمة بأمثالهم حتى تقدر هذه الأمة بهم أن تواجه زمن الفتنة بعلماءه وحكامه. آمين.