بمرارة وألم كبيرين نقر بتبدل حال المثقف والسياسي الفلسطيني ونزوله من قمم الجبال الشماء والمكانة الرفيعة، الى المنحدرات وبطون الحفر .. وربما لا يختلف اثنان في نظرتهم الواقعية أنه يلاحظ في هذه الآونة بون واسع، وشتان ما بين مستوى ثقافة الفلسطيني السياسية اليوم وحالها بالأمس؛ فهي في انحدار مقلق؛ فمنذ أواخر الخمسينات وحتى الثمانينات كان الإنسان الفلسطيني المهجر والنازح من وطنه يُشار إليه بالبنان على إنه من أرقى الشعوب العربية؛ وقد كان له الدور الأبرز في نشر الثقافة والتعليم في دول الخليج العربي على سبيل المثال؛ رغم الظروف المأسوية التي تعرض لها؛ في محاولةٍ لإلغاء وجوده واغتصاب أرضه وبيته وما يملك في وطنه فلسطين. وأيضاً معاناة ومحنة تشتته في أصقاع المعمورة؛ ومن ذلك مثلاً لا حصراً؛ ما تعرَّض له من مضايقات حكومات عربية شقيقة خلال تكيّفه مع الواقع الجديد الذي فُرض عليه؛ واتجه الفلسطيني بقوة إلى سلاح العلم والقلم وأخذ ينكبَّ على تحصيل العلم في مختلف دول العالم؛ وبعد أن ذاق صنوف المعاناة من كل الأنواع المادية والمعنوية … الخ؛ تمكن من تحصيل العلوم وتفوق بها، وكان له باع طويل في تطوير مجتمعات الدول الخليجية، واستطاع الفلسطيني أن يتبوأ درجات ومستويات رفيعة وأصبح يُشار إليه بالبنان. لقد كان ذلك الفلسطيني حقاً أستاذاً وملهماً؛ فقد برع في التحليل السياسي لِما يدور حوله أو بعيداً عنه.
وبنظرة مقارنة موضوعية بين حال الفلسطيني اليوم وأمس لا نجد صعوبة البتة في الإقرار بالهبوط السياسي والثقافي الكبير الذي يعانى منه اليوم؛ ولتبرير ذلك الحال نلوذ بالظروف والمتغيرات الدولية والإقليمية وحتى المحلية؛ وإذا حاولنا البحث وتحليل الأسباب التي أوصلت الفلسطيني لحاله الهابط اليوم، ففي تقديرنا أن أول الأسباب يكمن في دور الاحتلال نفسه في تسهيل مهمة التجهيل الثقافي للفلسطينيين، من خلال عدة أمور؛ منها فتح أبواب العمل أمام العمالة الفلسطينية في فترة السبعينات للعمل في بناء الاقتصاد الإسرائيلي، بل وبناء المستوطنات أيضاً، ومنح تلك العمالة أجور مرتفعة؛ مما دفع أبناء المدارس الفلسطينية لهجرها والاندفاع للحصول على عمل؛ وبالتالي الحصول على المال. صحيح أن الفلسطيني كان مضطراً لذلك، لكي يحصل على قوت يومه؛ في وقتٍ أهمل الجميع فيه احتياجات المجتمع الفلسطيني في الأرض المحتلة؛ مما دفعه دفعاً للعمل في المنشآت الإسرائيلية. وأمام ذلك التدافع الفلسطيني للعمل داخل إسرائيل؛ نجحت المخابرات الإسرائيلية في إسقاط عدد من أولئك العمال للعمل كجواسيس لها داخل مجتمعهم؛ مما كان له من أثر بالغ في الهبوط السياسي لدى المثقف الفلسطيني؛ الذي اضطر لترك دراسته للعمل في إسرائيل.
وثاني الأسباب كانت آثار حرب دول التحالف الدولي والعربي على العراق؛ إذ أصبح الفلسطيني للأسف الشديد ملفوظاً في كثير من الدول العربية والغربية؛ بعد اتهامه بتأييد النظام الحاكم في العراق وقتذاك. وحجم الضغوط المتعددة التي لاقاها الفلسطيني في الغربة، جعلته يسعى لتحقيق أمنه وسلامته أولاً، وبات فاقد لحاجات الإنسان الأساسية الستة اللازمة لكل إنسان يعيش وسط مجتمع ما؛ ولم يعد مجرد التفكير في السياسة ذا قيمة بالنسبة له.
والسبب الثالث يكمن في ولوج منظمة التحرير الفلسطينية في آتون عملية التسوية مع إسرائيل الغاصبة للأرض والعرض منذ مؤتمر مدريد في أواخر عام 1991م، وما تلاه من مفاوضات سرية في أوسلو بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل؛ ولمَّا تمخضت تلك المفاوضات عن نتائج أقل مما توقعها؛ أُصيب بخيبة أمل أو قُل إحباط كبير جعلته لا يبالي كثيراً بأمور السياسة؛ بعدما فقد ثقته بقيادته التي أوهمته بأنها لن تقبل بأقل من تحرير كامل التراب الفلسطيني؛ فاكتشف الإنسان الفلسطيني بعد عقود من عمر قضيته، أنه يلهث وراء السراب وخداع كبير، بل الى الحد الذي قال فيه أحد السياسيين: نحن نعيش في كذبة كبيرة الآن في شأن السياسة الفلسطينية؛ بعدما فرَّط الجميع بقضيته وحقوقه، سواء أكان من الجانب الرسمي الفلسطيني أم من جانب النظام الإقليمي العربي.
أما السبب الرابع وهو الأخطر في تقديرنا؛ فكان بعيد نشوء السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية؛ وما ترتب على ذلك من تحوُّل رجال الثورة والتحرير والخلاص من إسرائيل إلى مناضلو مكاتب كما وصفوا أنفسهم؛ وقد كبّلتهم اتفاقات التسوية أوسلو وغيرها؛ فأصبحوا يلاحقون المناضلين وأبطال الانتفاضة الشعبية الأولى، بل ومطاردتهم ووأد روح المقاومة التي اشتعلت في صفوف الفلسطينيين على مختلف طبقاتهم ومستوياتهم وأعمارهم؛ ولكن للإنصاف وللتاريخ فإن بعض حملة البنادق الشرفاء وهم للأسف قلة أبوا الانجرار وراء المزايدات الرخيصة، وفضّلوا أن يكونوا في الصفوف والمراتب الخلفية على أن يبيعوا مواقفهم بثمنٍ بخس لقاء منصب زائف لا قيمة له تحت مطرقة الاحتلال الذي كان ولا زال يُقطّع أرجاء الوطن في هذه الظروف والأحوال. وسمعنا الكثيرين كتبوا وقالوا أنهم يعيشون غربة مخيفة في الوطن العزيز بعدما حلَّ به من تردى بفعل التسوية السياسية وويلاتها التي يتجرعها إلى اليوم الإنسان الفلسطيني؛ ومنهم من ردد ألاَّ مكان له في وطنه، ولا قيمة لتضحياته ون
ضالاته ولا مكانته، التي كانت يوماً سبباً في رقي شعبه والشعوب العربية.
ضالاته ولا مكانته، التي كانت يوماً سبباً في رقي شعبه والشعوب العربية.
والسبب الخامس، وهو الأشد خطورة؛ فكان تنامي سيطرة التنظيمات وتغولها في الساحة الفلسطينية مع انطلاقة الانتفاضة الثانية عام 2000م؛ حيث فقدت السلطة الفلسطينية قيمتها وأهميتها، بعدما نازعتها عليها الفصائل والتنظيمات؛ فكانت بعض المساوئ في أعمال الانتفاضة ومنها التجهيل العلمي والتثقيف السياسي في الداخل الفلسطيني؛ فعملية التعليم تمَّ وأدها عن سابق إصرار، وتفشت ظاهرة التجهيل الثقافي؛ فبعد أن كان الفلسطيني حريصاً على سماع الأخبار السياسية من عدة مصادر؛ لم يعد يعنيه سوى الإنصات لصوت فصيله الذي يهواه.
والسبب السادس والأخير؛ وهو بمثابة الفيروس القاتل؛ تركّز في حالة انقسام المجتمع الفلسطيني على نفسه بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة في مطلع عام 2006م؛ وما ترتب عليه من تناحر بين قطبي الفصائل الفلسطينية، أي: فتح وحماس؛ مما أدى إلى تفشي ظاهرة العصبية الفصائلية عوضاً عن العصبية العائلية، ودكَّ التجهيل العلمي والثقافي المتعمد أركان المجتمع، حتى بات جزء لا بأس به لا يفقه من أمور السياسة شيء وتحكمت الأهواء والشخصنة والحسابات الشخصية التي علت على المصالح الوطنية ومصلحة الوطن.
لقد كان الفلسطيني يوماً أستاذاً ومحللاً سياسياً راقياً، تعلمت منه حركات التحرر الكثير؛ ولمَّا كان التلميذ أحياناً يفوق ويبزَّ معلمه؛ فيا ليت الأمر وقف عند ذلك الحد؛ ففي حالة الفلسطينيين؛ لم يتفوق تلميذه عليه فحسب؛ بل وتخلف ذلك المعلم وتراجع بصورة أضحى معها بحاجة لمن يعلمه أمور السياسة. إن تلك الأمور لم تحدث بين ليلةٍ وضحاها؛ وإنما رُتب لذلك بدقة وإحكام؛ فالكل مسئول عمّا آلت إليه الأمور سواء أكان محلياً أم إقليمياً أم دولياً.
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الأزهر – غزة