ماجد الشّيخ
قبل فترة وزّعت دار النهضة العربيّة بيانا ذكرت فيه: أنّ سلطات الرّقابة المصريّة أقدمت على منع أربعة دواوين شعريّة من إصدار الدّار لهذا العام (2008) من الدّخول إلى مصر، وهي لثلاثة شعراء لبنانيين وشاعر عراقي: “حياة معطّلة” للشاعر عبده وازن، و“ضوء بين حياتين” للشاعر غسّان جواد، و“بوّاب الذاكرة الفظ” للشاعرة زينب عسّاف، و“هواء الوشاية” للشاعر العراقي المقيم في السويد فاروق يوسف. دون أن تقدّم أيّ مبرّر، أو توضيح أسباب قيامها بهذا الإجراء. علما أن الدّواوين المذكورة ذاتها، سبق وأن اشتركت في معارض عديدة للكتب، ولم يعترض رقباء أو أجهزة رقابة أخرى عليها، ومنها الرّياض والجزائر والمغرب وتونس وأبو ظبي والشارقة وغيرها.
إلامَ استند جهاز الرّقابة في مصر المحروسة، وهو يقرّر منع تلك الدواوين؟ وأيّ دور يحاول جهاز الرّقابة المصري أن يتقمّصه أو يتماهى معه؟ وإلى من يقدّم خدماته في هذه الحالة؟ وأيّ نزعة تفتيشيّة تلك التي أمست تتفشّى لدى رقباء الحالة الثّقافويّة العربيّة التي يراد لها إلتحاقا بأيديولوجيا التديّن السياسوي، وفرقها المتطرّفة؛ الإرهابيّة منها “فكرا” وممارسة، وتلك السّلفيّة المغرقة في ماضويّتها؛ وفوضاها، العامدة إلى الحجب والمنع والمصادرة، العاملة على فرض “قوانين حسبـتها” المهينة للعقل، وللإنسان، وللمجتمع، وأخيرا للدولة. والهدف الأخير: قتل الرّوح في جسد الحرّية، أو قتل الحرّيّة في كروم الحياة.
إن أجوبة “السلطة الآيديولوجية“، تلك التي تنطلق من المنع والقمع لتسدد سهامها باتجاه الثقافة ومنتجيها، باتت اليوم وأكثر من أي وقت مضى، تتشكل على هيئة سلطة مخيفة؛ إنما تهدف الى وضع سدود فولاذية أمام تدفّق أسئلة الثقافة، في محاولة لمنعها من الوصول الى الناس. ولهذا فإن جديّة المثقف مطروحة على محك المصادمة، بدل المصادرة، في سياق التصدي للذين يريدون فرض رؤيتهم الأحادية على كل مصادر حراك مجتمعاتنا العربية المعاصرة.
على أنّ سلطة الثقافة لا تنفصل عن سلطة النص الفاضح لتشويهات وتحريفات قوى الأمر الواقع المهيمنة، السلطوية منها والآيديولوجية، الأمر الذي يدخل هذه السلطة (سلطة الثّقافة) في دائرة الضرورة التاريخية؛ لا دفاعا عن النفس، وإنما في مواجهة كافة مصادر القمع والمصادرة ودعوات “الحرق“. وما الدفاع الذليل عن النفس وتقديم تفسيرات وشروح لحالة النص ونبش تاريخ منتجه – المثقف – سوى محاولة لصب الماء في طاحون “التفتيشيين الجدد“، في وقت لم ينس العالم بعد؛ جرائم محاكم التفتيش البدائية في القرون الوسطى.
”التفتيشيون الجدد” أشباه مثقفين، غايروا ويغايرون تطلعات شعوبهم، ويريدون العودة بها الى أقفاص الماضي السحيق، لمنع كل سؤال خارج سياق سلطتهم وسلطة أشباههم الدنيوية – السلطوية منها والآيديولوجية -. إنهم يريدون نصوصا تشبههم بالضرورة، ولا تشذ بالمطلق عن ذلك الخيط الرفيع الموهوم الذي رسموه لنص يتكرر ملايين المرات وعبر كل الأزمان والأمكنة، ليخاطب غرائزهم هم، نصهم هم في اتباعيّته التقليديّة الذي لا يرى في المجتمع/الناس سوى نسخة تتكرر، تستنسخ رؤاهم وأوهامهم عن عالم أحادي، غائم في مجاهل ماض سحيق؛ لم يعد يُرى إلاّ في مرآتهم هم.
الثقافة لا تفترض الإتفاق المطلق، فكما الاختلاف جوهر كينونة التمازج بين موجودات الطبيعة، كذلك لا يمكن أن تكون هناك ثقافة واحدة أو أحادية؛ لا تتمازج ومكونات الثقافات المختلفة المشدودة الى خطوط التلاقح والتجادل المستمر والمتواصل، المفضي لإغناء نصوصها وموضوعاتها، رغم افتراق مناهجها وطرائق تفكيرها وكتابتها وبحثها المستمر عن ذاتها، واستخلاص الحقائق النسبية وسط معمعة الوقائع النسبية.
الثقافة بهذا المعنى ليست إبنة المطلق، إنها نتاج النسبي والمحدود المتحوّل ـ زمانا ومكانا ـ وهي لهذا لا تخضع لمطلقات الآيديولوجيا، كما أنها لا يمكن أن تكون عرضة ورهينة الإستبداد وسلطته الإطلاقية المعمّمة لخراب الروح، واختراق الجسد بكل ميكروبات الإهتراء والتعفن.
لهذا وإن كان لا بد من محاكمة، فلتكن محاكمة الثقافة لنفسها، محاكمة المثقف لنصّه، النص محكوم لداخله لا لسيوف الخارج، أما التأويل الأوحد والأحادي فهو رهين تلك السيوف، لا رهين حكمة النص مهما تعددت مستويات قراءته. القراءة الوحيدة التي تستوفي شروط الإضاءة والتفسير والشرح، أي شروط الوعي بالمنتج الثقافي؛ هي تلك التي تتنوع في تأويلاتها من داخل النص لا تلك التي تقوًل النص من خارجه ما لا يقول.
إن خصوصية التأويل وعمومية التقويل لا تخدم نصا البتة، فبقدر ما يذهب التأويل الى التقويل، بقدر ما يتحول النص الى نص آخر مختلف تماما عن ذاك الذي أريد إضاءته عبر التأويل، ليصبح قولا على قول، وتلك هي لعبة القراءة “الاطلاقية” التي لا تغني ثقافة؛ قدر إفقارها، ولا تضئ قدر ما تعتم؛ وشواهد التاريخ والقضايا أكثر من أن تحصى في سياق حياتنا الثقافية العربية قديما وحديثا.
لقد ذهب مثقفون كثر إلى حتفهم، نتيجة ذاك الفقر المدقع في أدوات التحليل والمعاينة البدائية التي كان يرتجيها وما فتئوا؛ من يحاولون اليوم فرض سماتهم “النيرونية” على الثقافة والمجتمع العربيين. لقد ذهب المثقف مطواعا الى موته وهو يحدق طويلا في وجه قاتله، علَ هذا الأخير يفيق من غيبوبة المخدّر طويل الأثر الذي حقنت به أنظمة إستبدادية شمولية وتسلّطية مجتمعاتها، قبل أن تنقلب هذه المجتمعات على أعقابها لتطلق النار على حاضنتها السابقة وعلى ذاتها؛ مغرقة نفسها في وحل الصراع الأهلي طويل الأمد الذي ابتدأ بأشكال قمعية سلطويّة معينة ضد المجتمع؛ لا لينتهي الى هذا الشكل الحالي لقمع أهلي يرتدي لبوس التديّن السياسوي، وكأن الانظمة السلطويّة الإستبداديّة قد تخلت عن مهمة “حراسة” الحياة المدنيّة في تساوقها مع الحياة الثّقافيّة، بل لتبدأ مرحلة من تداخل وتشابك مهمات وتبادل أدوار السلطة و“بعض المجتمع” في الهجوم على الثقافة، والدعوة الى حرق نتاجاتها وقتل منتجيها، وإقامة محاكم تفتيش جديدة تمارس فيها بعض “العمائم” الظلامية حسبة من نوع جديد، بحق المثقفين الحداثيين والدعوة الى القتل؛ إن لم يكن عبر إطلاق النار، فبالقتل المعنوي على الأقل وتسفيه وتشويه الثقافة وجعلها عرضة للمساءلة التفتيشيّة ومحاكمها؛ رسمية وغير رسمية.
إن قمع الثقافة هو التجسيد الحي والمباشر لقمع الوعي الانساني، وتعويق المجتمع، ومنعه من الوصول الى وعي الذات، بل وتغييب هذه الذات في مجاهل تخلف وانحطاط قيم وسلوكيات يراد لها السيادة، وتصدّر المشهد العام؛ كوعي زائف لصورة الذات وموضوعها. فأن تكفِّر الثقافة ويساق المثقف الى الإغتيال، وأن تشيع “نيرونية” الحرق والمنع والمصادرة للنتاجات الأدبية والفكرية، فإن هذا لا يعني سوى دخولنا والإيغال أكثر في مستنقعات من ظلامية تجدّد ذاتها؛ كلما ران صمت المثقف وأوغل في البحث عن خلاصه الذاتي، في معزل عن خلاصنا جميعا في مواجهة قتلة الحياة فينا، وفي مجتمعاتنا، وفي ثقافتنا المعاصرة.
*كاتب فلسطيني