نظرت الى وجهه فكان شاحبا بصورة مريعة، حدقت في عينيه فكان الدمع يغمرهما ويفيض على خديه وينساب مدرارا حتى يصل ذقنه، شفتاه ترتجفان ويداه متصلبتان وكانهما متشنجتان، الى جانبه كان يقف ابنه البكر ياسر– الذي بالكاد كان قادرا على الوقوف، بل واحيانا كان يسنده بعض جيرانه واصدقائه، صافحت ابا ياسر وعانقته، فضمني الى صدره بقوة حتى كاد يكسر عظامي، نظر اليّ نظرة حزن عميقة لن انساها ما حييت، وحاول الكلام لكنه عجز، ابتعدت عنه قليلا وجلست على احد المقاعد– حيث كان حشد كبير من المعزين يجلسون، حاولت ان افسر ما الذي كان سيقوله لي ذلك الرجل المنكوب الذي جئت مع كل رجال عائلتي لمواساته بمصابه وتعزيته بوفاة ابنه فلذة كبده، وخلته كان يود القول لي ( مات محمد الذي كان يحبكم يا ابا ساري.. مات محمد قبل ان تزهو له الحياة ليترك لنا زوجته وابنه الرضيع.. الآن محمد تحت التراب ولن ارى وجهه الباسم بعد اليوم ).. جلست على الكرسي، شربت فنجان القهوة المرة ( السادة ).. ثم نهضت وغادرت المكان مسرعا، لاني لم استطع تمالك نفسي من شدة الحزن.. فالميت رجل اعرفه تمام المعرفة– شاب في مقتبل العمر، كان ودودا بسيطا الى ابعد الحدود، عاش فقيرا ومات فقيرا، لم يهنأ في حياته ولا ليوم واحد، وهو ينطبق عليه الى حد كبير المثل القائل– من بطن امه الى القبر– كان محبوبا من الجميع لانه كان بسيطا مسالما، قصير اللسان، خدوما جدا لمن ينشد مساعدته، وكان فوق ذلك يحظى بالتعاطف من قبل كل معارفه نظرا لفقره المزمن.
قبلها كان ملاك الموت يحوم حول ابنه الرضيع– الذي جاء الى الحياة عليلا.. وحينها كنت قد كتبت انا عنه مقالا يشرح ماساته، ويسلط الضوء من خلاله على اوضاع الفقراء في بلادي.. لكن ملاك الموت– وبالمشيئة الربانية– ترك الطفل الرضيع لقدره المكتبوب، واتجه الى والد الطفل، فانتزع روحه بسرعة اذهلت كل الناس.. محدثا صدمة لكل الناس.. فمحمد الملقب بالمحسود ما كاد يطمئن على حياة ابنه.. الا وتعرض لحادث سير.. وشاءت الاقدار ان لا يموت محمد على الفور بل خرج من المستشفى معتقدا انه سليم معافى، وبعد يومين من خروجه جاء الى بيتنا ليزور زميله– ابن عمي– الذي اصيب معه بنفس حادث السير وكسرت يده، جاء المحسود ليزور رفيقه وزميله في العمل ليطمئن على وضعه، وغادر الى بيته ماشيا على رجليه كاي شاب معافى سليم.. لكن يبدو ان القدر كان يلعب لعبته، ففي نفس تلك الليلة وبشكل مفاجئ شعر المحسود بآلام شديدة في بطنه، الامر الذي دفع بوالده لنقله على الفور الى المستشفى، فتبين انه يعاني من نزف شديد افقده معظم دمه، فتدافع شبان المخيم في الحال– اصدقاؤه واخرون لا تربطهم به علاقة– للتبرع له بالدم، وعلى مدى يومين تم اعطاؤه اكثر من 30 وحدة دم .. لكن المسالة كانت اخطر من النزيف.. حيث اتضح ان محمد يعاني من تكسر في صفائح الدم، الامر الذي يعني ان حالته قد اصبحت ميؤوسا منها، وما كاد اليوم الثالث يمضي على اقامته في المستشفى حتى فارق المحسود الحياة، وتم اعادته في نعش الى بيته والى زوجته وامه جسدا بلا روح.. فبكاه الجميع بحرقة وتجمع كل سكان المخيم ليحملوه على الاكتاف ليدفن تحت التراب، وتم اقامة بيت عزاء له في بيت احد جيرانه حيث لم يبقى رجل شاب او كهل الا وجاء لتقديم واجب العزاء.
موت محمد المحسود ادخل الحزن الى قلب كل من يعرفه.. لكن الاهم من قصة موته– التي من المؤكد انها تتكرر الاف المرات في كل يوم– الاهم هو ان الموت قد كشف المستور عن حياة المحسود ووالد المحسود وكل عائلة المحسود.. كشف عظم الماساة التي كان يعيشها، حيث ادوات الموت من فقر وبؤس وحرمان وشقاء تحاصرهم وتخنق انفاسهم، فبيته لم يكن اكثر من الواح صفيح ملحقة ببيت ابيه، ولم يكن يملك من الاثاث الا القليل الذي لم يكن يجعله قادرا على استضافة اي من اصدقائه، اما مؤونة البيت من الغذاء فكانت فقط ما يكفيه واسرته لنفس اليوم، وما يبقيه بالكاد على قيد الحياة، لم يكن المحسود يملك اي من الادوات او الاجهزة التي تتيح له ولزوجته اي شكل من اشكال الراحة والتمتع او الترفيه..
المحسود كان عامل عادي لا يملك الا قوة عضلاته.. عامل طالته مثل الاف العمال في بلادنا افة البطالة وطحنته لسنوات، وفرصة العمل اليتيمة التي نالها كانت عمل في الزراعة بنظام المياومة، يستيقظ يوميا من اجلها قبل طلوع الفجر ليسافر ويعبر حاجز الحمرا اللعين ليصل الى مناطق الاغوار، حيث الطقس هناك مثل جهنم الحمراء في الصيف، وبارد الى حد تكوّن الصقيع في الشتاء، وهو عمل اشبه تماما بعمل السخرة زمن الاقطاع والعبيد، مقابل اجر يومي لم يكن يتجاوز ال 58 شيكلا– بلا حقوق عمالية ولا ضمانات صحية ولا ضمانات اجتماعية، ولا تامينات ضد اصابات العمل– وماساة المحسود لم تتوقف عند الاجور المتدنية او ظروف العمل اللا انسانية.. بل تجاوزتها الى مروره هو وزوجته بظروف صحية صعبة للغاية، دفعتهما لانفاق كل ما كان المحسود يحصل عليه من اجور للعلاج، واكتملت الماساة مع ولادة ابن له خرج من بطن امه وهو يعاني من بعض الأمراض، مما جعل المحسود يستلف المزيد من الاموال من اصدقائه ومعارفه كي ينقذ وليده.
مات المحسود تاركا للمجهول زوجته وابنه، وتاركا في قلب ابيه وامه حسرة.. ومثل كل الفقراء مات بصمت وبلا ضجيج، كافح طول حياته بش
رف ليكسب قوت عياله، لم يكن يبحث يوما عن رغد العيش– فهو لا يعرفه، ولا كذلك ابدا عن الرخاء والترف، وكان حلمه الاكبر مجرد الحصول على فرصة عمل كريمة آمنة، توفر له الحد الادنى من احتياجات اسرته، من ماكل وملبس ومسكن وعلاج.. كان يحلم لو يحمل يوما في جيبه اي مبلغ من المال– مهما كان صغيرا– يمكنه من ادخال البهجة والسرور الى قلب زوجته وابنه، ولينام ليلة واحدة غير خائف من الغد.. لكن غول الفقر ظل يطارده كما طارد قبله اباه، ويطارد الان اكثر من 50% من ابناء شعبنا.. هذا الغول المنفلت من عقاله، والذي لا يجد من يحاربه بصدق وجدية ليجتثه من جذوره، ويخلص الشعب من شروره، الامر الذي يؤكد ان في بلادنا طبقة اخذة بالتبلور– هي خليط متحالف من الحكام واصحاب رؤوس الاموال– تؤمن بان الفقر ظاهرة طبيعية، وترسخ بسياساتها وممارساتها نظاما يقوم على الانقسام الطبقي، حيث تنعم فئة قليلة من الناس بالثروات وتهيمن على الفرص والمقدرات، لتجلب لنفسها الرفاهية.. وفئة اخرى تشكل الاغلبية، محرومة مهمشة، تعيش على الفتات من الخيرات، وتطحنها بشكل مستديم ازمات السياسات الاقتصادية والاجتماعية– التي تقررها وتفرضها الطبقة الاولى الحاكمة.
رف ليكسب قوت عياله، لم يكن يبحث يوما عن رغد العيش– فهو لا يعرفه، ولا كذلك ابدا عن الرخاء والترف، وكان حلمه الاكبر مجرد الحصول على فرصة عمل كريمة آمنة، توفر له الحد الادنى من احتياجات اسرته، من ماكل وملبس ومسكن وعلاج.. كان يحلم لو يحمل يوما في جيبه اي مبلغ من المال– مهما كان صغيرا– يمكنه من ادخال البهجة والسرور الى قلب زوجته وابنه، ولينام ليلة واحدة غير خائف من الغد.. لكن غول الفقر ظل يطارده كما طارد قبله اباه، ويطارد الان اكثر من 50% من ابناء شعبنا.. هذا الغول المنفلت من عقاله، والذي لا يجد من يحاربه بصدق وجدية ليجتثه من جذوره، ويخلص الشعب من شروره، الامر الذي يؤكد ان في بلادنا طبقة اخذة بالتبلور– هي خليط متحالف من الحكام واصحاب رؤوس الاموال– تؤمن بان الفقر ظاهرة طبيعية، وترسخ بسياساتها وممارساتها نظاما يقوم على الانقسام الطبقي، حيث تنعم فئة قليلة من الناس بالثروات وتهيمن على الفرص والمقدرات، لتجلب لنفسها الرفاهية.. وفئة اخرى تشكل الاغلبية، محرومة مهمشة، تعيش على الفتات من الخيرات، وتطحنها بشكل مستديم ازمات السياسات الاقتصادية والاجتماعية– التي تقررها وتفرضها الطبقة الاولى الحاكمة.
لم يستطع المحسود الانتصار على الفقر ، رغم انه ظل يكافح طوال حياته للانعتاق منه.. ولا يمكن لامثال المحسود ايضا الخلاص من الفقر– الا اذا واجهوا الفقر بشكل جماعي– من خلال حركة اجتماعية، تسعى لاحداث التغيير الجذري في مجمل نظامنا السياسي.. وتفرض سياسات وتسن قوانين، تؤسس لاقامة نظام سياسي يقوم على العدالة الاجتماعية والاقتصادية.. وهي المعركة الازلية التي خاضها كل المظلومين عبر التاريخ وقادها عظماء لن تنسى البشرية ماثرهم، وكان من ابرزهم الخليفة الراشدي عمر ( رضي الله عنه ) ، الذي قال يوما وهو يحاول ارساء نظام للعدالة — والله لو كان الفقر رجلا لقتلته– ومنهم كذلك الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري ( رضي الله عنه ) الذي قال وهو يكافح الفقر ويحاول استئصاله ( عجبت لمن لا يجد في بيته قوت يومه.. كيف لا يخرج للناس شاهرا سيفه ) مشرعا بمقولته العظيمة تلك للجياع وللمحرومين– اطلاق ثورة شاملة ضد الفقر.
مخيم الفارعة
21/8/2008