يبدأ الشهر الكريم خلال 48 ساعة من اليوم التاسع والعشرين من آب (أغسطس) الجاري فنبدأ الصوم عن الطعام والشراب والموبقات حتى نهايته مستلهمين في ذلك سنة النبي محمد بن عبد الله رضوان الله عليه وملتزمين بما فرضه رب العباد على الناس.
في كل سنة يقدم الدعاة وجبات دسمة من الوعظ والإرشاد للناس عموماً وللصائمين على وجه الخصوص ويعتبرون هذا الشهر فرصة عظيمة للمسلمين كي يتسامحوا ويتراحموا ويشدوا أزر بعضهم البعض عبر تقديم العون (وزكاة الفطر عمادها) للفقراء والمحتاجين كما يذكروهم بطلب العفو والمغفرة من الله وأن أبواب السماء تفتح في هذا الشهر الكريم لذا عليهم الإكثار من الدعاء.
في مقالنا هذا سنأخذ منحى آخر لتناول قدوم الشهر الكريم يتعلق بأهمية الحدث من الزاوية السياسية وما يتعلق بأحوال الأمة العربية وظروفها المضطربة والصعبة وإمكانية أن نجري تغييرات ولو بالحد الأدنى في أوضاعنا المعقدة وانقسامنا غير المسبوق، ذلك أن الدعوة لوحدة الصف والتآزر وتقديم العون لا تنطبق فقط على الأفراد بل تتعدى ذلك للبلدان والأمم والشعوب وأظنها الأكثر أهمية في دعوات الدعاة والموجهين بل وفي كل الأحوال التي يشكل رمضان فرصة طيبة لتغييرها نحو الأفضل.
لماذا يمثل الشهر الفضيل فرصة جديرة بالاهتمام لتغيير نوعي في واقعنا وحياتنا؟
الإجابة تأتي على مستويين الأول يتعلق بالتعاليم والمعاني الخيرة لعملية الصوم ومترتباتها ومن ثم استعداد الناس ومنهم القادة لتقبل النصيحة والالتزام بتعاليم الخالق لما يضفيه الصوم من هدوء وصفاء عقلي وشفافية وصبر وتعاطف مع الغير من جانب الصائم في هذا الشهر، والمستوى الثاني ما يتعلق بالرموز والدلالات الهامة لأحداث تاريخية وقعت في هذا الشهر ومثل بعضها محطات نوعية كبرى في حياة العرب والمسلمين وسنتطرق لبعضها في سياق عرضنا هذا.
نحن كأمة نعاني اليوم عدة مشاكل ليس أخطرها تفرقنا وضياع هيبتنا بين الأمم بل يضاف لذلك أزمات وعداوات وتنابذ يعصف ببعض الدول العربية ويعطي المجال لتدخلات أجنبية لا تخدم سوى أعداء الأمة، كما يوجد معضلات ترتبط بالفقر والتصحر وشح المياه وغير ذلك من مسببات الأزمة الاقتصادية، في الوقت الذي تحظى فيه بعض الدول العربية الغنية بما يفيض عن حاجتها بعشر مرات، كما أن استمرار اسرائيل في رفض التسليم بحقنا في أرضنا وعدم وجود سياسة محددة تجاه ذلك رغم كل التعاليم الدينية يجعل من دعوتنا للوحدة في هذا الشهر ضرورة قومية لها أولوية قصوى إن أردنا التغيير الذي نتحدث عنه.
“شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان” واضح ذلك المعنى العظيم في الهدى والفرقان وهو ما نفتقده اليوم في كل العالم وليس فوق أرضنا وبين أبناء الجلدة الواحدة، وفيه أيضاً معركة بدر الكبرى ومعانيها ودلالاتها الكبيرة حيث انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الضالة بالعقيدة الصحيحة والالتزام بتعليمات الرسول وكانت بداية النصر الأكبر بعد ذلك بسنوات قليلة بفتح مكة المكرمة وعودة المهاجرين إلى بيوتهم، كما كان في رمضان من الحوادث الكبرى ذات الدلالات العميقة مقتل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وانتقال الفتنة لمرحلة جديدة وحرجة، والتي ما زالت دروسها وآثارها باقية حتى اليوم.
وفي هذا الشهر الكريم واقعة رفع السيد المسيح عليه السلام إلى السماء بعد صلبه وتحمله خطايا الناس وآلامهم ودروس تلك الحقبة من التاريخ البشري.
كما أن فيه تاريخ عزة وشموخ لهذه الأمة بفتح الأندلس وبلاد السند على يد كل من طارق بن زياد ومحمد بن القاسم. كما فيه بناء الأزهر الشريف بمصر، وتلبية نداء المرأة على يد المعتصم وفتحه الشهير لعمورية بعد صرختها المدوية “وامعتصماه” .
وفيه انتصارنا الأول على الصليبيين بقيادة عماد الدين زنكي شمال الشام، وأسر لويس التاسع الفرنسي اثر معركة المنصورة بمصر العربية، كما فيه انتصارنا في معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز، واستيلاء الظاهر بيبرس على إنطاكية بعد هزيمة التتار والقضاء عليهم. كما في رمضان كانت حرب تشرين (أكتوبر) 73 مع العدو الصهيوني التي انتصر فيها الجيشان السوري والمصري وأثبتا لكل العالم قدرة جنودنا على خوض المعارك الحديثة واستيعاب أسلحتها، تلك الحرب التي تم إفراغها من مضمونها بعد كامب ديفيد واتفاق الاستسلام الشهير مع اسرائيل.
لقد تجاهلت كما ترون وضع تواريخ هذه الوقائع مكتفياً بكونها وقعت جميعها في رمضان ناهيك عن مئات الحوادث والوقائع غيرها لم أجد أهمية لإيرادها في سياق المقال وها أنتم ترون أن هذه الوقائع مثلت تلك المحطات الهامة في تاريخنا قديمه وحديثه وهي إن روجعت بتمعن ستقدم لنا من جديد تلك الرؤيا الصائبة والمنهجية العلمية لسلوك طريق النصر مغيرين هذا الزمن المليء بالهزائم والانكسارات وهذه عظمة رمضان وقدرته على التغيير نتوخاها من أصحاب العقول النيرة والقلوب العامرة بالإيمان بالله وبالوطن وبالعروبة وحب الناس وبالقدرة على تلوين حياتنا بأنوار العزة والكرامة. أهلاً رمضان وفيك موائدنا العامرة وقلوبنا المتعبة…أهلاً رمضان ومنك نرتوي حلاوة الصبر والقدرة على التحمل والإحسان لمن أساء إلينا…أهلاً رمضان وأنت تبعث فينا نخوة المعتصم مرة أخرى وشجاعة طارق بن زياد…أهلاً رمضان وأنت تنبهنا لمكامن ضعفنا وتحثنا على تجاوزها والعودة عن الخطأ والتسامح مع الأخ درءاً للفتنة…أهلاً رمضان تصل بيننا بعض ما انقطع وتوحدنا عند آذان المغرب في الحد الأدنى…أهلاً رمضان وأنت تستصرخ الصائمين وغيرهم للقدس كما لعمورية المعتصم…أهلاً رمضان وبعض أهلنا يموتون جوعاً في الصومال ويستمر حصار غزة فتنادي نخوة العرب…أهلاً رمضان والكل يرى إمكانية التبرك بماضيك التليد للخروج من هذا القطوع المؤلم من تاريخنا وبداية الطريق لعودة الحقوق لأصحابها مقاومةً وصموداً ووحدة تغير المعادلة لتكون دوماً شهر الخير والبركة.
أجمل ما في رمضان أنه لا يعلمنا فقط قيم العدالة والحق والتسامح وغيرها من القيم العظيمة لإسلامنا الحنيف، بل ويعلمنا كيف نتغير ليس على المستوى الشخصي والسلوك الاجتماعي والأخلاقي كأفراد وإنما كيف نتبدل ونتغير للأفضل على مستوى الدول والجماعات إن أردنا الخير والمنعة لهذه الأمة… وهذه دعوتنا للجميع فمن يستجيب؟ وأهلاً برمضان الكريم.
زياد ابوشاويش