كان يجلس على الرصيف عند دوار الحسين في مدينة نابلس، مطرقا رأسه ويمتص الدخان بشراهة من سيجارة من النوع الرخيص، وكان بين لحظة وأخرى يرفع رأسه ويلقي بنظرة شاردة على جموع الناس المارين من أمامه، رجل في الخمسين من عمره، أشيب الشعر، يبدو انه لم يحلق ذقنه منذ عدة أيام.. اقتربت منه وألقيت عليه التحية، ففوجئ بوجودي وكأنه لم يكن يتوقع أن يعرفه احد في ذلك المكان، رد علي التحية بحرارة، وأفسح لي مكان على الرصيف بجانبه ودعاني للجلوس، سألته ماذا يفعل ولم يجلس في ذلك المكان، فأجابني انه يشعر وكان هموم الدنيا كلها موضوعة فوق رأسه، ولذلك قرر الابتعاد عن بيته وزوجته وأولاده ليوم كامل، وان استطاع فلأسبوع أو شهر أو أكثر، وقال خرجت إلى الشارع لأسير إلى حيث تأخذني قدماي.. سألته عن أوضاعه ( وأنا اعرف عنه مسبقا انه عاطل عن العمل، ولديه 6 أبناء، أكبرهم عمره 22 عاما، وهو معتقل في احد السجون الإسرائيلية، بتهمة قد ينال عليها عقوبة تمتد للعديد من السنوات ).. فأجاب بعد أن اخذ نفسا عميقا من دخان سيجارته.. كل شيء في هذه الدنيا أصبح بلا طعم، ولا شيء فيها يبعث على الأمل.. وأضاف : ها أنا عاطل عن العمل منذ أن بدأت الانتفاضة، وممنوع من الحصول على تصريح عمل لأسباب أمنية– بسبب اعتقال ابني– وان وجدت عملا في المناطق العربية، فانه لن يستمر إلا لبضعة أيام، ولذلك لا أستطيع تامين ابسط الأشياء لأولادي.. وأولادي لم يعودوا يسمعون كلامي، وحتى لم يعودوا يعاملونني باحترام، كل ذلك بسبب أنني لا أستطيع توفير لهم ما يطلبون وما يحتاجون.. ابني الأكبر معتقلا بالسجن، وأنا لا أستطيع زيارته، بينما أمه تزوره فقط مرة واحدة كل شهرين أو ثلاثة، ويبلغنا المحامي بين فترة وأخرى أن محكمته قد تأجلت.. لكن الأشد إيلاما أننا اليوم على أبواب شهر رمضان، وليس بمقدورنا تامين احتياجات شهر رمضان ولوازمه، بعد أن كنا قد استلفنا مبالغ طائلة لتامين احتياجات أبناءنا المدرسية..
حاولت أن اشد من عزيمته وأواسيه ولو قليلا، قائلا له : إن الأمر لن يطول.. وما عليه إلا الصبر وتحمل المصاعب.. مذكرا إياه بأيام سابقة كانت قد مرت عليه.. فقال لي بغضب : لا والله لم اشهد في حياتي أياما أسوا من هذه الأيام.. ففي الأيام السابقة كان لدي أمل وكان يلوح بالأفق شيء ما.. لكن لا يبدو لي أن في الأفق هذه الأيام أي بصيص من الأمل، ولا يبشرنا بأي شيء يفرح قلوبنا وينعشها..
قلت له بعد أن شعرت انه يائس محطم شديد الإحباط : تماسك يا رجل.. فكل شيء يمكن أن يتغير.. ولن تدوم هذه الأحوال إلى مدى الدهر.. فأجابني بسخرية.. أنا اشعر أنني لن أكون موجودا عند اللحظة التي ستتغير بها هذه الأحوال.
نهضت من مكاني وقلت له إنني سأقوم بإحضار فنجاني قهوة لي وله من الكشك المقابل، وأثناء تحضير القهوة قررت أن أحاول إخراجه ولو مؤقتا من همومه، فسردت له بعض الطرائف التي حصلت معي.. حتى شعرت أن ثورة غضبه قد هدأت، وقلت له حينها: دعنا نتحدث في أمور أخرى– وأنا اعرف شدة اهتمامه بالسياسة العامة، وشغفه بمتابعة الأخبار، فوافق بعد أن قال– وهل تعتقد أن الوضع العام أفضل من وضعي الخاص..؟؟ وأكمل قوله: إن كنت تعتقد ذلك فأنت مخطئ، فالأوضاع العامة تسير من سيئ لأسوا ويبدو أن المسئولين في بلادنا كلهم– لا استثني منهم أحدا– تركوا شعبهم للهموم .. ونحن العامة من الناس ومثلنا كل أوضاع بلادنا، نعيش كما يقول المثل ( عيش يا قديش …. )
فان سألتني متى ستتحرك الحكومة للجم غول الغلاء سأقول لك : عيش يا قديش.
ومتى ستنتهي البطالة ويجد العمال فرص عمل كريمة.. سأقول لك : عيش يا قديش.
ومتى سيتحسن وضع الخدمات الطبية الحكومية سأقول لك : عيش يا قديش.
ومتى سيقوم النائب العام بفتح ملفات الفساد.. سأقول لك : عيش يا قديش.
ومتى ستنهي الحكومة دفع المستحقات للموظفين.. سأقول لك : عيش يا قديش.
ومتى ستنتهي حالة الانقسام والتجزئة في الوطن.. سأقول لك : عيش يا قديش.
ومتى سنطوي ملف الاعتقال السياسي.. سأقول لك : عيش يا قديش.
ومتى سيبدأ الحوار الوطني الجدي.. سأقول لك : عيش يا قديش
ومتى سنجري الانتخابات الرئاسية والتشريعية.. سأقول لك : عيش يا قديش.
ومتى سيصبح التلفزيون الفلسطيني تلفزيونا لكل الفلسطينيين.. سأقول لك : عيش يا قديش.
كاد راسي ينفجر من قسوة الحقائق التي تحدث عنها ذلك المواطن الفلسطيني.. وبدلا من أن أخرجه من همومه– وجدت نفسي أيضا مثله محبطا، عاجزا عن تقديم أي إجابة أخرى غير ( عيش يا قديش ) على كل الأسئلة التي طرحها هو، وأجاب عليها بنفسه.. فنهضت واستأذنته بالمغادرة، وأسرعت للتواري عنه في زحمة الناس.
مخيم الفارعة
26/8/2008