بعد محادثات تلفونية مطولة مع العروس فاض بالعريس الشوق لليلة الزفاف، فرتب مع أهل العروس الموعد، وتحددت ليلة الفرح، ولم يبق على العريس فتحي شاكر غير السفر من غزة إلى مصر عبر النفق.
اتفق العريس فتحي شاكر مع صاحب النفق على دفع مبلغ 500 دولار أمريكي مقدماً، كي يتم نقله تحت الأرض من غزة إلى مصر، وتحددت ساعة النقل، وتحدد اليوم والتاريخ بما يتواءم ويوم الفرح، والعريس فتحي شاكر في غاية الفرح، والأمل، يغني لليلة الزفاف على نجلاء، ويرقص فرحاً لخطوته الجريئة في العبور لحبيبته عبر النفق، ويتواصل معها عبر الهاتف وهو يردد: عشقنا نيلك يا مصر!، أين أنت يا مصر؟ أمتارٌ معدودات من الأشواك، والخرسانة المسلحة، سأجتازها تحت الأرض، سأداوي القلوب التي تتمزق على الأسلاك، واقطع بحر السياسة الفاصل بين الحنين والأنين، بين القيود والانطلاق، أمتارٌ قليلة وتلتقي السماء مع الأرض، ويسقط المطر.
جاء فتحي شاكر في موعدة المحدد، وحسب الاتفاق مع صاحب النفق، جاء بطوله، دون حقيبة، مرتدياً ملابس الفرح، وربطة عنق، ويفوح العطر من حوله، ولكن صاحب النفق طلب من العريس أن يخلع ملابسه، والاكتفاء بالملابس الداخلية كي يسهل عبوره النفق.
في البداية تردد فتحي شاكر في خلع ملابسه، ولم يصدق ما سمعه، ولكنه اضطر لخلعها أمام إصرار صاحب النفق، وأمام ضغط الحاجة، ولهفة لقاء العروس، خلع ملابس الفرح، وراح يلفها بكيس نايلون، وهو يتمتم: هنا مصر، ها هي أمامي على مرمى البصر، هنا مصر، بضع خطوات مشاها الفلسطيني والمصري بالدموع سنة 67، هنا مصر تسرح شعرها على تلال الرمل في سيناء، وهنا غزة تجفف دموعها بلا لمسة حنان، هنا مصر الآفاق الرحبة، والحياة، وهنا غزة الحصار ومقارعة الموت، أمتار معدودات، وسأكون في حضن الحبيبية، أمتار من الوجع تفصل بين المريض والطبيب، بين جفاف الشوق وترطيب الجوف، أمتار معدودات تحول بين أغصان الشجرة وجذرها، وتباعد بين النهر ومجراه، سأعبر النفق إلى الحبيبة لأدلل لها عن عميق حبي.
تقدم العريس إلى النفق بكل ثقة، وأمل، ولكن ما أن اقترب فتحي شاكر من بوابة النفق، ونظر إلى الهوة العميقة المظلمة التي سينزل إليها تحت الأرض، سينزل تحت الأرض ثلاثين متراً ليقطع المسافة الفاصلة بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية، وسيقطع مسافة ألف متر تحت الأرض، شيء مدهش ومخيف، ارتعب العريس من مجرد النظر إلى الهوة السحيقة، وارتجفت مفاصله، وتراجع إلى الخلف، رافضاً النزول إلى النفق، تراجع مرتعداً وهو يقول لصاحب النفق: لا أريد السفر، سألغي مراسم الفرح، لا أريد الزواج، لا استطيع، لن أطالبك بالمبلغ المدفوع مسبقاً للسفر، اتركني أعود لبيتي في غزة.
صاحب النفق لم يرض بهذا التردد، ولا يقبل أن يهان نفقه، فلكل نفق سمعته، وصيته، ودعايته، ولصاحب النفق تجربة مع المسافرين عبر الأنفاق، فهم بشر، يخافون، ويرتعبون، ويترددون، ويصرخون في بداية النزول، ثم تُلجم ألسنتهم بمجرد أن ينزلقوا إلى داخل النفق، ويكفون عن الصراخ، ويستسلمون لقدرهم، لقد أصبحت لصاحب النفق خبره في نقل المسافرين، وهو يتفهم هذه اللحظة، ويقدرها، ويعرف علاجها؛ صفعة قوية على وجه المسافر الخائف تصيبه بالذهول، ومن ثم الأمر الحازم بالنزول.
رفع صاحب النفق يده وصفع العريس فتحي شاكر صفعة قوية على وجهه، وصرخ عليه آمراً له بالنزول إلى عميق النفق بالقوة.
نزل فتحي شاكر النفق وهو يصيح، ويصرخ، لا أريد السفر، ولا أريد الزواج، ولا أريد العروسة نجلاء، وظل صدى صراخه يتردد بين جدران النفق، دون أن يسمعه بشر على وجهه الأرض التي أصابها الطرش، واللامبالاة.
حدثني صاحب النفق: أنه لم ير في حياته أغرب من هذه الحالة، فقد ظل العريس يصرخ، وصراخه يصل إلى غزة حتى وصل إلى أرض مصر.
ولكن المفاجأة في ما حصل بعد ذلك؟
لم يذهب العريس إلى عروسة، ولم يعش ليلة الفرح، فما زال العريس يرقد في المستشفى غير قادر على الم
شي!!!
شي!!!