وجدان عبد العزيز
في الطريق إلى الحديقة ذات الساقية التي تأخذ من نهر مدينتي مائها الخابط ذا الغرين الطيني الأحمر ، كنت قد قطعت الطريق متجها إلى المدخل ، ودون سابق معرفة عاكستني أجمل فتاة لم يصطدم نظري بهكذا جمالٍ البتة ،حسبتها معرفة ،فابتسمتُ تلقائيا لألفة وجهها ، وسرعان ما انزوت الفتاة ، وظل جمالها كالعسل لصقا بذاكرتي ..
هكذا مع نصي الشاعرة ضحى بوترعة (صيحة أغصاني …) (والدروب إليك شهقة من دمعي) بقيت معلقا بين الحديقة وجمال الفتاة بين صيحة أغصاني … والدروب إليك (أعلى من الآلهة التي تنسج الغيب)(أبصر العشاق يتنابون على ذاكرتي) واستميح الشاعرة عذرا ، لأقطف .. وأنا استمر بغييّ ، لافترض الدخول إلى حدائق الشعر، أنها مباهج من التشكيل اللفظي وافتراض القبل المتبادلة مع المعنى .
قيل سابقا اللفظ جسد والمعنى روح والشاعر هو الموصل الذي يمتلك الكترونات حرة تطوف حول اللفظ والمعنى ومتى ما أصبح الشاعر أكثر تهذيبا من غيره اقترب من موطن الوجع خلسة ، وها إن الشاعرة بوترعة تصرح بأنها (ليس بعد … ليس للقبلة مفر
تخرج أحيانا كالماء وأحيانا متوترة …)
أي ليس بعد .. تسكت بوترعة هنا لتترك الباب مفتوحا للتأويل .. ثم تنفي عدم الخروج عن القبلة ، لأنها كالماء ولكن تحمل حالة التوتر .. وتردد: (ليس بعد …) وعندها القبلة علاقة غير مرئية كما الاحتضان تقول:
(احتضنتك في وجهي المحجوز في الندى …
تماما كما العبارة في الألوان)
أي بمعنى تحويل الأشياء المرئية إلى لا مرئية لان (هناك سطوة الندى تنفلت من القلب ) والشاعرة تسمو إلى الأعلى بل (أعلى من الآلهة التي تنسج الغيب) ، ولأنها لا تثق بما هو ارضي واقعي ولا يشبعها الخيال راحت توغل بالأمنيات وتتوشح بافتراض المُثل ، ليكون البوح أرقى .
تقول : (أعلى من كفي المرصود في الحواس
ومن شكل الكلمة المرتبة في الحبر
أطوف برسائل ذهبت إلى نفسها)
واعتقد إن ضحى بوترعة تكتب نصا قصيرا في لحظة الشعر يتشكل فيما بعد في نص طويل لا زال مستمرا ، فاني حينما حاولت الدخول إلى نص (صيحة أغصاني …) وجدت نفسي وجها لوجه أمام نص(الدروب إليك شهقة من دمي) ثم تزاحمت النصوص الأخرى لنفس الشاعرة ، لولا إني لذت بظلال هذين النصين عساي أن أقف على أعتاب ما تروم إليه (أطوف برسائل ذهبت إلى نفسها)و(بعد أن قال الكلام كلامه …) هذا التأرجح بين الكينونة واللاكينونة دلالة مرئية في انتصار الشعر على الكلام ودلالة على أن الإنسان الشاعر في ضحى وجد ضالته باجتراح مساحات لامرئية ترقص فيها بحرية الحركة والإشباع من الحب وليس العشق ، فهي تقول:
(أبصر العشاق يتنابون على ذاكرتي)
وأنا على يقين كما ترى هي(كنت أيقنت إن الجحيم يجهز نفسه لجسد لوثته تفاحة البدء) ، لذا أنا(أعلى من الآلهة التي تنسج الغيب)(ومن شكل الكلمة المرتبة في الحبر)و(اكبر من صيغة العشق …
من صخب
الفضة تحت قمر زائغ)
فهل إن الشاعرة وضعت أوزار البحث .. أبدا استمرت في اللحن الصاخب ، لأنها (اكبر من أغنية ستبدأ ..)
وهذه نبوءة مستقبلية مؤجلة التحقيق بسبب اسر الاستعارات وصيحات الحلم .. مثل(القميص يغدو في يدي حجرا)
(إن لليل بلاغة الخيانات
وان صيحة أغصاني صهاريج بلا ماء)
(وآن للجدران لا تخون حواس الليل)
وهكذا سمت بتحريك اللامتحرك وانسنة الأشياء من حولها وركبتْ طريق السرد الشفيف حينما تقول:
(بعد قليل …
الذي يستحم في السواد
سيدخل غبش الماء … سيحرك جذور الأنوثة)
هذا إن دل على شيء إنما يدل بلا أدنى شك على عبور حدود الأجناس الأدبية والمصاهرة بينها كون ارهاصات الشاعرة اكبر من أي جنس أدبي وهي تعيش حياة الللاوعي أكثر من الوعي ، وتصاب أحيانا بذهان البث والبوح ، ولكنها في حالة اليقظة تعدل عن هذا ..
(تفصلني عنك ضربة انتباه في العتمة)
وتتواصل الشاعرة ويتواصل قلق الإبداع ، لذا نراها تغرق بالتأمل ، ثم إنها تفضل الصمت تمسكا بالعفة ، فتغرق بالفراغات وهي الكلمات المسكوت عنها وسط انفعالات الشعر المستمرة وأنا لازلت احمل طعم الفتاة المرمري في مماشي الغسقي المؤدي إلى الحديقة ، اشتقت أكثر إلى دروب ضحى بوترعة ولم أمل بعد من السماع إلى صيحة أغصاني …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ