د. محمد بن إبراهيم السعيدي
هذه الفقرة من التقرير تذكرتها عندما توالت عبر وسائل إعلامية أخبار غير مشرفة لقضاة ودعاة في المملكة العربية السعودية. وهذه الأخبار لم تثبت والحمد لله، لكن ثبوتها ليس مهما لدى واضعي هذه الإستراتيجية لإسقاط المؤسسة الدينية السعودية، لأن قراء أمثال هذه الأخبار لا يبحثون عادة عن مصادرها، والقليل من هؤلاء القراء من يعتني بقراءة ما يصدر من الجهات المعنية من بيانات التكذيب، كما أن خمسين خبرا لا بد أن يوجد فيها خبر واحد صحيح يدعمه ناشروه بالحجة القاطعة التي تجعل كل الأخبار الكاذبة قابلة للتصديق.
كان مالكوم إكس يعتقد أن اليجا محمد نبيا مرسلا من عند الله جاء ليكمل دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو يصحح بعض ما وقع فيها أو في نقلها إلينا من أخطاء، وعلى هذا الأساس كان مالكوم أشد أتباع هذا النبي المزعوم حماسا، وأشد دعاة دعوته جذبا للجماهير وإيلاما للنظام الأمريكي الذي كان يشهد على يد إكس انقلابا اجتماعيا خطيرا لصالح السود ضد الهيمنة البيضاء هنالك.
كان فضل التابع على متبوعه أعظم من فضل المتبوع على تابعه، وهي حقيقة يجهلها مالكوم تماما، ويغضب حينما يجدها مكتوبة في الصحف، لأن النبي لا يمكن أن يكون أحد أكثر منة منه على أتباعه مهما فعلوا، وأن مجرد التفكير بهذه الطريقة رجس من عمل الشيطان.
أما الطرف الآخر، فقد كان يكتم غيظه من هذه الحقيقة ويتحين الفرصة المناسبة للإيقاع بداعيته إذا وجد البديل المناسب، لكن بديلا لإكس الخطيب المخلص الموهوب المؤمن حقا بما يدعو إليه سيده، أمر يكاد يكون مستحيلا.
وكانت المخابرات الأمريكية تشتهي مثل هذا اليوم الذي يسقط فيه أعظم خطيب أسود رأته القارة الجديدة منذ عرفها سادتها الجدد، لكن المقادير جاءت بأكثر مما تشتهي المخابرات الأمريكية وعلى خلاف ما يتمنى مسيلمة الأمريكي.
ـ كيف جاءت المقادير؟
رفعت مساعدتان في مكتب مدعي النبوة، دعوى، تطالبان فيها بنفقة أبنائهما من نبيهما الذي كان على اتصال بهما دون زواج، ولم ينفع الايجا إنكاره، فقد كانت حقيقة أبوته لهؤلاء الأطفال أكبر من أن تنكر. كانت هذه الفضيحة بداية النهاية لا لأليجا محمد وحده بل لحركته وجميع ما نادت به من مبادئ.
في أمريكا أيضا، تعرض رموز للحزبين الديمقراطي والجمهوري لفضائح أخلاقية بحجم فضيحة الايجا محمد لكنها بالرغم من الدوي الإعلامي الذي كان يصاحبها لم تؤثر سوى على أصحابها، أما أحزابهم ومبادئها فظلت في معزل عن أخلاقيات رموزها.
هل هناك سر؟
لا سر في تصوري، لكن هناك فرق بين الأحزاب السياسية التي تبني مثلها على أسس لا علاقة لها بالدين، وبين الحركات أو الأحزاب التي تبني مثلها على الدين. فالأولى لا تتأثر بهذه الفضائح لأن قيمها لا علاقة لها بالأخلاقيات الشخصية، والمفضوح أخلاقيا يسقط في نظر المجتمع أما في نظر الحزب فيعد سقوطه خسارة، ولولا الاعتبارات الانتخابية التي يتحكم فيها المجتمع لما وجد الخزب غضاضة في الإبقاء عليه.
أما الأخرى ـ الحركات الدينية ـ فعلى عكسها، لأن ما بسميه العلمانيون خلاقا شخصية، هو أحد منطلقات الحركات الدينية وجزء مهم من منظومة تكون صفة العدالة التي يعبر توفرها أو عدمه عن نجاح هذه الدعوة أو فشلها. إذا فضبط الرموز الدينية في قضايا أخلاقية هو أسهل وسيلة لإسقاط حركاتهم. وكان واضعو تقارير راند حريصين على السرعة في إنجاز إسقاط المؤسسة الدينية في المملكة العربية السعودية، ولذلك جاء في توصياتهم ما يلي:
(تشجيع الإعلاميين العرب الذين يعملون في وسائل الإعلام واسعة الانتشار، لإجراء تحقيقات وتقديم تقارير عن حياة قيادات المتشددين الخاصة وفسادهم الأخلاقي والمالي وتسليط الضوء على الحوادث التي تشير إلى وحشيتهم مثل الحادثة التي أدت إلى وفاة عدد من التلميذات في حادث حريق، عندما منعت الشرطة الدينية رجال الإطفاء من إجلاء البنات من مدرستهم المحترقة بحجة أنهن لسن محجبات هذا إلى جانب نفاقهم الذي يتمثل في منع المؤسسة الدينية السعودية العمال الأجانب من تلقي صور فتوغرافية لأطفالهم حديثي الولادة وذلك بحجة أن الإسلام يمنع صور الآدميين بينما يزينون مكاتبهم بصور ضخمة للملك فيصل وغيره، كذلك تسليط الضوء على دور المنظمات الخيرية في تمويل الإرهاب والتطرف والذي أصبح أكثر وضوحا بعد الحادي عشر من سبتمبر ولكنه يحتاج إلى المزيد من العمل في هذا الاتجاه وإجراء التحقيقات الرسمية).
إن هذه التوصية وردت ضمن تقرير راند المسمى: الإسلام الديمقراطي المدني وترجمه موقع إسلام ديلي، وهي توصية نابعة من تجارب أمريكية في إسقاط الحركات الدينية، ونابعة أيضا من تجارب توراتية في محاولات اليهود المتكررة إفشال دعوات أنبياء بني إسرائيل الإصلاحية، والتي تقف في وجه المصالح الدنيئة للمتنفذين اليهود، تريد وزارة الخارجية الأمريكية اليوم العمل على وفقها لاحتواء الإسلام، الذي أكد أحد تقارير راند أيضا أنه لا يمكن الوقوف في وجهه إلا باحتوائه، ولا يمكن احتواؤه إلا بالقضاء على من يسميهم التقرير: الإسلاميون المتشددون.
هذه الفقرة من التقرير تذكرتها عندما توالت عبر وسائل إعلامية أخبار غير مشرفة لقضاة ودعاة في المملكة العربية السعودية. وهذه الأخبار لم تثبت والحمد لله، لكن ثبوتها ليس مهما لدى واضعي هذه الإستراتيجية لإسقاط المؤسسة الدينية السعودية، لأن قراء أمثال هذه الأخبار لا يبحثون عادة عن مصادرها، والقليل من هؤلاء القراء من يعتني بقراءة ما يصدر من الجهات المعنية من بيانات التكذيب، كما أن خمسين خبرا لا بد أن يوجد فيها خبر واحد صحيح يدعمه ناشروه بالحجة القاطعة التي تجعل كل الأخبار الكاذبة قابلة للتصديق.
إن واضعي التقرير يعتمدون على فرضية أن الخبر الكاذب يمكن أن يعيش إذا كانت وسائل نشره أقوى من وسائل نشر تكذيبه، وذلك كالخبر الكاذب الذي ضمنوه هذه التوصية، فالحريق الذي يشير إليه التقرير خبر صحيح وهو حريق إحدى مدارس البنات في مكة قبل سنوات، لكن الكذب هو كون الشرطة الدينية منعت الفتيات من الخروج، لأن الهيئة لم توجد أصلا في المكان عند بداية الحريق، وقد نشرت صحيفة الوطن آنذاك هذه الكذبة، وفندها تقرير إمارة مكة في حينه، ولكن إستراتيجية استثمار الكذب لا تعترف بأي تكذيب.
وقد درج الكثير من الطيبين على مواجهة أمثال هذه الأكاذيب، بقولهم نحن لا نخشى الكذب، لأن الكذب حبله قصير، والحقيقة أن الكذابين يعرفون أن حبلهم قصير، لكن قصره لا يجعله غير قادر على الإحاطة بالرقبة وهذا هو المهم عندهم، لذلك ينبغي أن نخشى من الكذب ما دام حبله قادرا على أن يخنقنا. وإذا كان الحبل القصير قاتلا فكيف سيكون حال الحبل الطويل، أي عندما يصدق الكاذبون ويقعون حقا على مثلبة لأحد الدعاة أو القضاة؟
لا شك أن الدين لا يضره خطأ المخطئين ولا عصيان العاصين أيا كانوا، كما أننا لا نقطع بالعصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نستبعد أن يقع أحد في الخطأ، ومن ابتلي بشيء من الآثام، فالدين والدعوة بريئان من عمله، ومن حمل الدين والدعوة تبعات أخطاء قلة من القائمين عليهما، فخطؤه في ذلك أعظم، لاشك في كل ذلك، لكن هل يعفينا هذا الكلام الجميل من تحمل تبعات أخطائنا، وهل يعفينا ذلك من البحث عن وسيلة مناسبة للوقوف في وجه مثل هذه الحملات الصحفية صادقة كانت أم كاذبة، وهل يعفي ذلك كل من أصبح في نظر الإعلام رمزا للفكر الديني من أن يتجافى عن مواطن الشبهات وأن ينأى بنفسه عن مصادر الزلل، وأن يعلم يقينا أن سمعته لم تعد ملكا له وحده بل أصبحت ملكا للآخرين، وأنه أصبح ثغرا ينبغي أن يوقظ عينه وقلبه كي لا يؤتى الدين من خلاله. ما أعظم أن يكون الإنسان ثغرا وما أسوأ أن يكون الثغر ضعيفا.
إن المبادرة إلى تكذيب ما ينشر من هذه الفضائح أمر يدل ع
لى حسن ظن القارئ بإخوانه من المتصدرين للدعوة أو القضاء، وهو حسن ظن مطلوب يؤجر عليه صاحبه، بل هو قبل ذلك حسن ظن المرء بنفسه، امتثالا لقول الله تعالى حين علمنا كيف نواجه الشائعات التي تروج على المؤمنين {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} النور12، نعم: ظن بنفسك خيرا واعلم أن إخوانك إن لم يكونوا مثلك فهم خير منك، لكن لا تذهب في حسن الظن أبعد من ذلك، لأنك إن فعلت وتأكدت بعض الشائعات فسوف يقع عليك ذلك وقع المصيبة التي إن لم تصبر عليها فتنتك، فيكفي منك لنفسك أن تعلم أن أكثر ما يشاع من ذلك كذب مغرض وإن تحقق منه شئ فلا حول ولا قوة إلا بالله {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} النور 54.
لى حسن ظن القارئ بإخوانه من المتصدرين للدعوة أو القضاء، وهو حسن ظن مطلوب يؤجر عليه صاحبه، بل هو قبل ذلك حسن ظن المرء بنفسه، امتثالا لقول الله تعالى حين علمنا كيف نواجه الشائعات التي تروج على المؤمنين {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} النور12، نعم: ظن بنفسك خيرا واعلم أن إخوانك إن لم يكونوا مثلك فهم خير منك، لكن لا تذهب في حسن الظن أبعد من ذلك، لأنك إن فعلت وتأكدت بعض الشائعات فسوف يقع عليك ذلك وقع المصيبة التي إن لم تصبر عليها فتنتك، فيكفي منك لنفسك أن تعلم أن أكثر ما يشاع من ذلك كذب مغرض وإن تحقق منه شئ فلا حول ولا قوة إلا بالله {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} النور 54.
ثم ها هنا رسائل أحب أن لا أختم المقال حتى أبعثها إلى أهلها:
الأولى: لكل من وفقه الله ليكون كاتب عدل أو قاضيا: لا يستغوينكم التأويل في الأموال ويستدرجكم إلى استمراء الحرام إن التأويل منحدر صعب من دلف فيه انكفأ على وجهه وخسر الدنيا والآخرة،
الثانية: إلى القضاة خاصة: إن حسن الخلق سياج يحمي الله به أعراض المؤمنين، فاحم عرضك بحسن الخلق الذي يملأ القلوب من محبتك فيقطع الله به عنك ألسنة ويقيض به لك أخرى، ويمكنك العدل والجهر بالحق ووجهك وضاح وثغرك باسم.
الثالثة: إلى من وفقهم الله تعالى للدعوة لدين الله تعالى وطريق الحق والفضل: لا يكن ما آتاكم الله من علم بلاء عليكم تتسلطون به على المشتبه من الأقوال فتقعون في فتنة الناس وفتنة أنفسكم بأنواع من الزيجات وأصناف من المعاملات لا تليق بكم مروءة حتى لو كانت الفتوى بإباحتها، فليست كل المباحات حرية بأهل المروءات.
رئيس قسم الدراسات الإسلامية جامعة أم القرى