أيّ إستقراء هادئ ، وغير منحاز ، للوضع في العراق يشخّص ان النفوذ الأيراني قد تغلب وبوضوح على النفوذ الأمريكي وتبعاته ، وهذا مالم يشر اليه الخبير البريطاني السياسي كوكبرن في تقريره لشبكة ( كاونتر بنج ) الأمريكية ، كما يتحاشاه كل السياسيون والصحفيون الأمريكان ، ومعهم اكثرية السياسيين والصحفيين العرب ، عدا الجهات الوطنية العراقية ، لأسباب منها ماهو متعمد ومنها مايدرج على حماقة ، وعلى المؤشرات التالية :
اولا : تحول دور القوات الأمريكية من دور معيد عملاق القوة للإعمار في العراق وباني مشاريع الى دور حارس شخصي للحكومة وميليشياتها غير قادر على متابعة أي نوع من أنواع البناء ، بمعنييه المادي والمعنوي ، وبذلك نجح النفوذ الأيراني في تهميش دور القوات الأمريكية الى دور شرطي حماية جوية وارضية للنفوذ الأيراني المباشر المبرقع بوجه عراقي .
ثانيا : أيران لاتهدد عن فراغ بأن الجنود الأمريكان أسرى او ( رهائن ) لديها في العراق ، كما قال محمود أحمدي نجاد ذات مرّة ، لو لم تمتلك أيران قوة فعلية للأسر والإرتهان جاهزة لمعاضدتها حين الطلب في العراق ، لابل وان أيران إدعت انها حفرت اكثر من ( 300 ) الف قبر على حدودها للقوات الأمريكية اذا ماحاولت إسرائيل واميركا ضرب مفاعلاتها النووية . وقد خفتت حدّة حديث القادة الأمريكان والصحافة الأمريكية عن المدّ الأيراني في العراق مؤخرا لتمرر إنتخاب المرشح الجمهوري على جملة من زيف ( التطورات الأمنية على الأرض ) .
ثالثا : أعلنت أيران صراحة قبل سنتين انها تستطيع ان تساعد اميركا على الرحيل الآمن من خلال إستبدال قواتها بقوات ايرانية مباشرة ، وايران ليست متبرعة مجانا لهذه الخدمة العسكرية لو لم تكن متأكدة بأن معظم القوات المسلحة ( العراقية ) تحت إمرة المالكي هي من التبعية الأيرانية بإمتياز واضح المعالم من جهة ، ومن جهة ثانية لأنها علمت بطريقة أو أخرى ان اميركا مستعدة لقبول تبادل الأدوار في العراق .
ولكن اين دور المقاومة الوطنية العراقية في هذا الصراع ؟! .
وهنا مربط خيول كل الحروب المركبة في العراق ، من حيث ان كل الأطراف غير العراقية ، عربية وغير عربية ، قد أجمعت وعلنا على الوقوف ضد هذه المقاومة ولأسباب مختلفة :
أولا : تجارة الحرب ضد الإرهاب . بين خجل وخوف ورعاية مصالح أعلنت كل الدول العربية أنها ضد ( الإرهاب ) الذي يعني أمريكيا الحرب ضد المقاومات الوطنية العربية بشكل خاص ، ومنا أخطرها : المقاومة العراقية ، بل يقال ان بعض الدول العربية تشجّع قوات الصحوة السنية على تصفية هذه المقاومة تحت شعار الحرب على تنظيم ( القاعدة ) كما هو واضح ، فيما يقوم الجانب الأيراني بتخدير الشيعة بشعار المقاومة السلمية السياسية ، وهذا يوجز حقيقة ان المقاومة الوطنية العراقية بلا ظهر عربي رسمي وبلا ظهير إسلامي رسمي .
ثانيا : عدم إستقرار المقاومة الوطنية العراقية ، بشقها الأكبر السني وشقها الخجول الشيعي ، على قيادات فاعلة سياسيا وعسكريا . البعض يرى ان لهذه الميزة فضائل أمنية ، ويرى البعض الآخر انها بوادر منافسة على السلطة أدّت الى عدم التساوق والتناغم بين عملياتها العسكرية والمستجدات السياسية في العراق ودول الجوار وغيرها، لذا قدمت موقفا مقاوما مترهل الأداء ، يصعد مرة ويخفت مرة أخرى ، مع كثرة ، بعضها ممل ، من البيانات السياسية ، وحتى بيانات تشويه أطراف مقاومة أخرى .
ثالثا : التشويه المستمر ، من قبل قوى الإحتلالات المركبة في العراق ، وبالتعاون مع بعض القنوات العربية ومعظم القنوات الأجنبية ، للمقاومة الوطنية العراقية لوأد حركات التحرر الحالية والمستقبلية في العالم العربي ، النفطي بشكل خاص ، وهذا يذكر المرء بصانع سلسلة أحجار الدومينو الحريص على توازن حجرة العراق خوفا على بقية الحجارات من الإنهيار .
ولكن هل يعني ان الجهود المضادة للمقاومة الوطنية العراقية ستنجح حقا ؟! .
الجواب الأكيد : لا !! . وعلى دلالة بسيطة جدا ، لاتحتاج الى ذكاء كبير لسبر أغوارها ، وهي ان أجيالا من العراقيين ، من مختلف الطوائف والقوميات ، بدأت تفهم اسرار العاب الحرب : من مفاهيمها وغاياتها السياسية الى تقنيات القتال في الشوارع وغيرها . وهؤلاء أخطر ممّن حيّدتهم الظروف من المقاومين في الفترة الأخيرة ولأسباب مختلفة ، لأن هذه الأجيال تمثل ديمومة كامنة قابلة للإنفجار في اي ظرف مناسب ضد من شاركوا في قتل وإهانة آبائهم وأجدادهم أيا كانوا .
وهذا مالم يتطرق إليه المحلل السياسي البريطاني كوكبرن ، إما لجهلة بأيمان العرب بحق الثأر ممّن إعتدى عليهم ، والذي يدوم عقودا كما هو معروف ومتعارف عليه ، ولنا في إستعمار فرنسا للجزائر لمدة ( 130 ) عاما اكثر من عبرة ، أو لأنه تجاهل هذه الحقيقة متعمدا لسبب خاص به ، وهذه واحدة من الحقائق الفاعلة والمؤثرة الآجلة بكل تأكيد ليس على موقف أميركا المستقبلي في العراق ، بل وعلى موقف كل من ساند هذا الإحتلال وأيا كان .