اذا كنت مغتربا اردنيا، وذهبت الى عمان في زيارة لسبب ما، فسرعان ما تجد نفسك تحت مرمى نيران مجموعة من النصابين المحترفين، من اصحاب شركات وهمية غير مرخصة تحت أي نشاط تجاري ، تعمل في مجال تجارة العملات الدولية، او من مندوبين ومندوبات تسويق، ينقصهم الكثير من الاحتراف في علم وفنون التسويق، وكل مؤهلاتهم تلك المقدرة العجيبة على الكذب وعدم اليأس من استخدام فنون الاغراء بالكسب السريع. واذا كنت صحفيا يحركه الفضول ستجد نفسك في احد مكاتب هذه الشركات التي نبتت كالفطر في العاصمة الاردنية، وسترى ان كل مقوماتها التي يعدك اصحابها بكسب اموال طائلة مجرد غرفة وصالة وجهازي كمبيوتر وموظف وفراش لتقديم القهوة والشاي. ويبدا صاحب او صاحبة الشركة (كثير من هذه الشركات اصحابها سيدات) باعطاء نماذج “وهمية طبعا” من عملائهم حققوا ارباحا طائلة في فترة زمنية قياسية، ويبداوا باستعراض قدرتهم الاستثمارية، ويؤكدوا مرارا وتكرارا على خبرتهم العميقة في مجال الاتجار بالعملات، ويدعونك بحركة لافتة للنظر الى شاشة الكمبيوتر للاطلاع على جدول الاسعار المتحرك، وهم لا يدركوا بانك تعرف ان ما يدعونك لمشاهدته هو مجرد “ويب سايت” لاحدى شركات العملات العالمية. ثم تبدأ السيدة الثلاثينية التي بذلت مجهودات كبيرة لتبدو كسيدة الاعمال او خبيرة التسويق اللبنانية، حتى في لهجتها المليئة بمفردات اللهجة اللبنانية الدارجة، بتقديم صورة عن حجم الاستثمار المطلوب وامكانية مضاعفة راس المال خلال ثلاثة اشهر. وعلى سبيل المثال تقول السيدة : اذا استثمرت 100 الف دولار، فان العائد الشهري للاسثمار يبلغ بحد ادنى (دقق النظربعبارة حد ادنى) 30 الف دولار، أي انك تسترجع راس مالك خلال 3 اشهر. اما اذا استثمرت 10 الاف دولار فان ارباحك ستكون بنفس النسبة (30 بالمائة) أي ثلاثة الاف دولار شهريا. ولا يتوانى صاحب الشركة عن محاولة اقناعك بانه حريص على مصلحتك فيقدم لك نصيحة مفادها ان تستثمر في البداية 20 الف دولار، حتى تكون مطمئنا على اموالك. وعندما تسال عن الضمانات التي تقدمها الشركة لاثبات صحة ما تعرضه، يرد صاحب الشركة بالقول ان لا ضمانات لديه “فهذه تجارة فيها ربح وخسارة”، وعندما تقول له ان لديك خبرة في هذا المجال تفيد بان غالبية من تورطوا بتجارة العملات تعرضوا لخسارة فادحة وان معظمهم خسروا راس مالهم كله، يقال لك بان هؤلاء وظفوا اموالهم “عند نصابين” وتبدأ موجة من التحذير من التعامل مع الشركات الاخرى لان معظمها “نصابة” واصحابها “محتالون”. وعندما تقول انك سمعت هذه العبارة في جميع الشركات التي زرتها (في اشارة الى ان الشركات الاخرى تتهمكم بنفس الاتهام) يبدا التوتر على السيدة وتتظاهر بزحمة الاتصالات الهاتفية، وتلاحظ العصبية في حركة يديها وراسها وعينيها، وقد يصل الى افتعال مشكلة مع الفراش الذي تاخر في احضار القهوة!!!. وتقوم فكرة النصب في شركات الاتجار بالعملات على ان الشركة مجرد سمسار، تأخذ عمولة عن كل عملية بيع او شراء، ولذلك فهي تشجع عملائها على القيام باكبر عدد من عمليات التداول، ولا يعنيها مطلقا ما سيتعرض له العميل من ربح او خسارة . فهذه الشركات اشبه بصالات القمار او المراهنة، لديها خبرة كبيرة للايقاع بمن لديه رغبة بتحقيق الربح السريع. وتنص العقود التي تبرمها مع العميل على انها لا تستلم أي اموال منه ، وليست هي التي تسلم له الارباح في حال تحققها، فهو يضع امواله في بنك اجنبي باسم شركة تجارة عملات اجنبية، والشركة الاجنبية هي التي تصرف له الارباح في حال تحقيقها، وهي التي تاخذ الاموال في حالة الخسارة، كما تنص العقود على ان الشركة المحلية دورها يقتصر على تقدم النصيحة للعميل وانها لا تقوم بعملية التداول من تلقاء نفسها. و الحقيقة ان الشركة تستخدم اساليب متعددة مباشرة وغير مباشرة لحث العميل على الاكثار من عمليات التداول كي تمكن من تحقيق المزيد من الارباح. ومن الحقائق المثيرة في عالم النصب هذا ان معظم الشركات ليس لديها الكثير من العملاء فالكبيرة منها لا يزيد عملائها عن سبعة الى ثمانية عملاء، والحقيقة الاكثر اثارة هي ان غالبية عملاء الشركات الاردنية هم من المقيمين العراقيين، وان غالبيتهم اذا لم يكن معظمهم وقعوا ضحية لنصابين ومحتالين شركات تجارة العملات بالاردن وخسروا جميع اموالهم. وهناك نوع اخر من النصب في هذا المجال يقوم به مندوبين لشركات عالمية، يتركز دورهم على اقناع المواطنين الاردنيين بفتح شركات محلية للتجارة بالعملات، حتى بلغ عدد هذه الشركات حسب مصادر حكومية نحو 350 شركة، تمارس النصب والاحتيال ، ولا تخضع لاي رقابة حكومية، ولا تدفع ضرائب او رسوما على نشاطها السري. هذه الظاهرة المرضية بدأت بالانهيار بعد ان اصدرت الحكومة بصفة عاجلة قانون مؤقت منذ اسبوعين ، لتنظيم عمل مكاتب وشركات الوساطة. وكان مجلس الإفتاء وهو أعلى هيئة شرعية في الأردن قد أصدر فتوى شرعية مؤخرا تفيد تحريم التعامل بالعملات والسلع في البورصات العالمية عبر الإنترنت، واستندت الفتوى إلى عدة محاذير شرعية أولها أن ربح المكتب مضمون، بينما ربح العميل غير مضمون، بحيث يقتطع المكتب أرباحه، سواء كانت النتيجة ربحًا أو خسارة، كما أن هذا النوع من المعاملات يتضمن ما يسمى البيع بالهامش، أو المارجن، وهو ما لا يجوز شرعًا، إضافةً إلى أن المال الذي يقترضه العميل من مكتب البورصة مشروط بأن يحصر العميل عملياته بالمتاجرة في العملات، ومن خلاله هو نفسه، مما يعني أن القرض يكون
مشروطًا، وهو أمر غير جائز شرعًا. وتقدر الخسائر التي تكبدها من تورطوا بهذه التجارة خلال السنوات الخمس الماضية بالاردن بحوالي 15 مليون دولار امريكي وذلك من واقع سجلات المحاكم التي تغص بالشكاوي والدعاوي التي رفعها مواطنون على هذه الشركات. وكانت الاردن قد شهدت قبل سنوات فضيحة كبرى حين نصب احد اصحاب الشركات من هذا النوع نحو 20 مليون دولار وهرب الى خارج البلاد. وعلى اثر الخطوة الاردنية اصدر مدير ادارة الافتاء في دبي احمد الحداد فتوى شرعية بتحريم الاتجار بالعملات عبر الانترنت وقال الحداد في الفتوى: “البيع والشراء بواسطة وسائل الاتصال الحديثة من هاتف وتلكس وإنترنت وغير ذلك لا مانع منه شرعًا إذا توفرت أركان البيع والشراء، وهي أن يشتري الإنسان بماله لا عن طريق الهامش ولا أن يبيع شيئا لا يملكه، وإذا كان البيع والشراء لعملات فلا بد فيها من التقابض الحكمي، بأن يدفع ثمن اليورو مثلاً دولارات نقدًا، فيتم التقابض بإخراج الثمن من حسابه وتسجيله في حساب البائع، وكذا البائع يدفع المبيع نقدًا بأن يسجل اليورو في حساب المشتري ويقبض الدولارات”. وكانت الكويت قد اصدرت قانونا قبل 6 سنوات تقريبا قيدت فيه عمل شركات التجارة بالعملات برفع راس مال الشركة الى 5 ملايين ديناركويتي مع كفالة قدرها نصف مليون دينار. وذلك بعد تعرض مئات المواطنين لعمليات نصب واحتيال تكبدوا خلالها خسائر باهظة، وقامت الحكومة باعتقال عدد كبير من اصحاب ومدراء وموظفين في هذه الشركات لمدة سنة تقريبا. ان انهاء ظاهرة شركات الاتجار بالعملات في الاردن تمثل خطوة ضرورية وحضارية، لضبط الانطمة التجارية والاستثمارية، نأمل ان تتبعها دول اخرى خصوصا جمهورية مصر العربية التي بدأ يتجه اليها عدد من شركات النصب العالمية، وبعض اصحاب الشركات الاردنية الذين ستغلق شركاتهم في ضوء القانون الجديد، والفتوى الجديدة. كما انه لا بد من الاشارة الى ان هذه الشركات بدأت تتغلغل في السوق السوري، بشكل سري، حتى ان البعض يمارس العمل بتجارة العملات من المنزل، ويتفق مع العملاء على تسليمهم الارباح خارج سوريا، (هذا في حالة تحقيق ارباح) كما ان عملية ايداع الاموال المسثمرة في البنك الاجنبي تتم من خلال تسليم المبلغ نقدا في سوريا، ويقوم شخص غير معروف بايداع ما يقابلها باسم العميل بالبنك الاجنبي. وهذا يشير الى ان شكلا من اشكال العمل المافيوي يشق طريقه عبر خديعة اسمها التجارة بالعملات في سوريا. ويفترض ان تشير الخبرة انه مطلوب وبسرعة من المسؤولين في قطاعات المال والاستثمار في البلدان العربية تحديث القوانين الخاصة بالاستثمار، والعمل على حماية المواطنين من النصابين والمحتالين، الذين لا تقف خطورة اعمالهم على افقار الناس وسرقة ودائعهم المحدودة، بل انها تنخر في الاقتصاد الوطني مما يعيق حركة التقدم والتنمية الاقتصادية التي تشكل الرافعة الاساسية لكل تقدم سياسي او ثقافي او فكري او اجتماعي. وعلى الجهات المسؤولة ان تتنبه للكثير جدا من الانشطة التجارية والاقتصادية ذات الصبغة الاحتيالية والنصابة، وكذلك التصدي بقوة لكل اشكال الغش والخداع التي يتعرض لها المواطن العربي في القطاع التجاري، من تلاعب بالاسعار، والجودة، والتزوير، والتقليد. ان الاهتمام بهذه الجوانب ضروري جدا ، لتحقيق اهداف التنمية والتطور والارتقاء، حتى لا يظل مجموعة من النصابين ينخرون بالاقصادات الوطنية، ويزيدوا ثرواتهم على حساب شعوبهم الي ترتفع في صفوفها نسبةالفقر بسرعات خطيرة. وعلى كافة المثقفين والكتاب والنخب العربية ان تكرس جهدا من وقتها لمكافحة هذه الظواهر المرضية، التي تساهم بقوة في اعاقة التقدم ، وتغذي التخلف والجهل والهزيمة، والاحباط والياس. فتطوير بلادنا لا يحتاج فقط الى نضال سياسي، بل نضالا شاملا وعلى مختلف الاصعدة، وهذا دور مركزي يفترض ان تتبناه قوى اليسار وتبتكر الاساليب النضالية الكفيلة بمواجهة كل ما يعيق تطلعات شعوبنا نحو التقدم والارتقاء.
ابراهيم علاء الدين