تشهد الساحة الفلسطينية، خاصة الداخلية منها منذ فترة ليست بالقليلة تخلفاً سياسياً، نتيجةً لتعدد الولاءات السياسية، وتشرذمها بين الفصائل والتنظيمات على اختلاف مسمياتها. فلم يعد البعض الفلسطيني مهتماً ومبالياً بانتمائه الفلسطيني بقدر شدة انتمائه للتنظيمات، خاصة بين الفصيلين الكبيرين على الساحة الفلسطينية، ونقصد بهما فتح وحماس، حتى أننا بتنا لا نرى في شوارع الداخل الفلسطيني سوى رايتين يتم رفعهما على أسطح المنازل، هما الصفراء والخضراء، تعبيراً عن ولاء أصحابهما لهما دون غيرها من الرموز الوطنية كالعلم الفلسطيني، الذي يُفترض أن يكون الراية الوحيدة التي تُرفع لتجسيد الوحدة الوطنية.
سبحان الله وفجأة وبدون مقدمات انغمس البعض الفلسطيني في تخلفٍ سياسي، قلَّما رأينا له نظيراً في أي ساحة سياسية، فما بالكم في ساحتنا التي يجب أن تكون نقية نظيفة من أي مهاترات سياسية غير محمودة العواقب. ويبدو أن هذا التخلف ثمة من يدفع باتجاهه ودعمه، لا لشيء إلاَّ لأن هذه الفصائل لم تعد تدرك من الوطنية حتى القشور، وبات البعض في الساحة الفلسطينية، عُباداً لرموز فصائلها وليست مخلصة لقضيتها المصيرية، ولتهنأ إسرائيل بما وصلنا إليه من تخلفٍ لا ندري أين سينتهي وماذا ستكون عواقبه؟
لمصلحة من يتساوق هؤلاء العبيد المغرر بهم؟ أليس فيهم رجل رشيد يعيدهم إلى جادة الصواب؟ لمتى يبقون عبيداً لشخوص لا تفقه من الوطنية حتى أبجدياتها؟ ولمَّا كان الإنسان خطَّأً إلاَّ أنه عند لحظة بعينها وعندما يرى نفسه قد وقع في آتون الخطأ الفاحش يعود إلى صوابه. ولكن على ما يبدو في حالتنا الفلسطينية استمرأ بعضنا الخطأ حتى أصبح عقيدة ملازمة له، يأبى أن يحيد عنها، بل ويندفع في ارتكاب المزيد من الخطايا دون وازع من ضمير أو بقايا وطنية لا زالت موجودة في نفسه.
إلى متى يظل هؤلاء العبيد مغيبين عن الوعي السياسي، الذي سيقضي على الأخضر واليابس مما تبقى لنا من كرامة إنسانية؟ وبالتالي لا يجوز لنا أن نلوم غيرنا على ما اُبتلينا به من آفات، مع إنه بأيدينا مفتاح الحل لمشاكلنا التي استفحلت وتفشت. قطعاً لا نستطيع أن نلوم عدونا على ما نحن فيه من هوان وذل، فهو أولاً وأخيراً يعمل على تحقيق أهدافه، وإذا جاز لنا أن نلوم إخوتنا وبني عمومتنا، لكن هذه الملامة تذهب أدراج الرياح إذا تعمدنا نحن وعن سابق إصرار وترصد أن نُضيّع حقوقنا بيدنا لا بيد غيرنا. نحن نرى الخطأ بأم أعيننا ونتمادى في تزينه وتنميقه ثمَّ نلوم غيرنا.
إن هذا البعض الفلسطيني لو شعر للحظة واحدة بوخزة ضمير وترفّع عن عبادة الفصائل والتنظيمات وامتنع عن تقديس راياتها وشاراتها، لأصبح لنا شأنٌ آخر. فمما يؤسف له أن عبدة الفصائل والتنظيمات رغم أن لهم إلهاً واحداً يتقربون إليه، لكنهم يؤمنون بعدة رُسل أو أنبياء هم قواد هذه الفصائل على اختلاف مشاربهم، ويضحّون من أجلهم بالغالي والنفيس، ولم يعودوا يضحوا من أجل فلسطين بيتهم الأساسي والوحيد، وباتوا يعبدون رموز تلك الرُسل المتمثلة بالرايات والشارات دون إدراك لخطورة هذا العمل المقيت، وما سيترتب عليه من عواقب وخيمة.
إن الإنسان الفلسطيني العاقل الذي لا زال محتفظاً بقواه العقلية، ليشعر بالغثيان عندما ينظر إلى أسطح المنازل، فيرى تلك الرايات فقط ترفرف في سماء بلدنا ولم يعد يرى العلم الفلسطيني. ألهذا الحد وصل بنا التخلف؟ وبسبب هذه الرايات المقيتة اختلف الإخوة داخل المنزل الواحد وتعاركوا وتخاصموا، بل ووصل الحد ببعضهما لعدم الاعتراف بنسب أخيه لأنه يتبع رايةً لرسولٍ آخر، هو كارهٌ له. لقد وصل بنا الحال إلى أن الإخوة باتوا أعداء لبعضهما البعض، والجار والزميل لا يتكلم مع جاره أو زميله ويقاطعه إذا كان معتنقاً لفكرٍ مغاير له. بل وأكثر من ذلك وهي ظاهرة شاذة لم تكن معروفة في الساحة الفلسطينية، أن الأخ أو الجار لا يحضر عرس أخيه أو جاره خشية أن يكتب به متخصصي التقارير، تقريراً لرسوله بأنه حضر هذا العرس، مما يترتب عليه قطع راتبه من جهة وأن يُنزل به رسول هذا الفصيل أو ذاك جام غضبه، ويعتبره ليس وفياً وغير مخلص له من جهةٍ أخرى.
الله أكبر ألهذا الحد وصل بنا الحال من العهر والفجور السياسي؟ إلى أي أمة نحن ننتسب؟ إن الإسلام ديننا الذي نُجمع عليه جميعاً بريء من تصرفاتنا وأفعالنا، ويأبى أن نكون من أتباعه. فإذا كنا مسلمين حقاً فيجب أولاً وأخيراً أن ننزع عن أنفسنا هذه التصرفات غير المسئولة، وأن نعود إلى رشدنا، وأن نعيد إلى ساحتنا الوطنية التلاحم الوطني كما كان، ولنعلم أن بئس من اتبع فصيلاً أو تنظيماً أو حزباً لا يعمل أنبيائه إلاَّ لمصالحهم الشخصية فحسب، أما أتباعهم فلن يجدوا في نهاية المطاف إلاَّ الخزي والعار والندم، ولكن بعد أن يفقدوا مروءتهم وإنسانيتهم، فهل قومي فاعلون؟ إنني أخشى أن اُتهم بالتشاؤم، لكنها الحقيقة المرة التي نجح البعض في الترويج لها، فقومي ذاهبون إلى آخر الشوط، في تركيم العد
اوات فيما بينهم، وفي إضافة المزيد من التباغض والتباعد فيما بينهم. اللهم ارحمنا فيما جرت به المقادير.
اوات فيما بينهم، وفي إضافة المزيد من التباغض والتباعد فيما بينهم. اللهم ارحمنا فيما جرت به المقادير.
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الأزهر – غزة