بقلم نقولا ناصر*
ان أي تقويم لدبلوماسية وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس ازاء
بقلم نقولا ناصر*
ان أي تقويم لدبلوماسية وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس ازاء الصراع الاسرائيلي العربي بعامة والفلسطيني بخاصة سيحكم على هذه الدبلوماسية بالفشل الذريع اذا افترض مثل هذا التقويم ان رايس كانت تسعى فعلا الى ايجاد حل لهذا الصراع ، لكنه سيحكم لها بالنجاح الباهر اذا انطلق التقويم من المنظور الاميركي للاهداف الحقيقية لدبلوماسيتها ، اذ بدون هذا النجاح ما كان الرئيس جورج دبليو. بوش ليحتفظ بها رئيسة لدبلوماسيتة طوال ثماني سنوات خلال ولايتيه .
ومن المقرر ان تكون رايس قد بدات امس الاحد زيارتها السابعة للاراضي الفلسطينية المحتلة منذ مؤتمر انابوليس الذي اطلق جولات المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية التي اعقبته ، ويمكن تلخيص الهدف من هذه الزيارة بوصف احد المعلقين لها بانها لا تعدو ان تكون زيارة “وداعية” ، ويكاد معظم المراقبين يجمعون على ان الاوان قد فات فعلا لكي تحقق رئيسة الدبلوماسية الاميركية أي اختراق سياسي خلال الشهور الثلاث الاخيرة من عمر ادارة الرئيس بوش ، ليسجل التاريخ لاحقا ان دبلوماسيتها لحل الصراع العربي الاسرائيلي عبر عقدته الفلسطينية قد باءت بالفشل الذريع لانها حاولت “تقليد” دبلوماسية المكوك وسياسة الخطوة – خطوة التي انتهجها سلفها الاسبق هنري كيسنجر لاحداث انجاز تاريخي بكل المقاييس تمثل في مفاوضات كامب ديفيد التي تمخضت عن اول معاهدة سلام عربية اسرائيلية منفردة في اواخر العقد السابع من القرن العشرين الماضي .
فمنذ التاسع من كانون الثاني / يناير الماضي حتى السادس عشر من حزيران / يونيو قامت رايس بست زيارات ، رافقت في اثنتين منها رئيسها بوش الى اسرائيل بين 9-11 كانون الثاني وبين 14 – 16 ايار / مايو ، واجتمعت خلالها تكرارا بالرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزرائه سلام فياض ونظيره الاسرائيلي ايهود اولمرت ووزير حرب الاخير ايهود باراك والتقت الوفدين المفاوضين برئاسة احمد قريع وتسيبي ليفني وكان مكوكها الدبلوماسي قبل ذلك قد حملها الى المنطقة اكثر من عشر مرات .
وبالرغم من انتقادات رايس لتوسيع المستعمرات الاستيطانية الاسرائيلية ومطالبتها بازالة البؤر الاستيطانية العشوائية والحواجز العسكرية التي تعيق حرية الحركة الفلسطينية في الضفة الغربية في كل زيارة من زياراتها فان دبلوماسيتها المكوكية عجزت تماما عن التقدم ب “خطوة” واحدة لتفكيك “بؤرة” واحدة او ازالة حاجز واحد باتجاه احداث أي تغيير ملموس على الارض المحتلة منذ عام 1967 يمهد الطريق لابرام أي اتفاق ملزم ، ولو كان “اتفاق رف” على الورق في الاقل ، وهو الهدف المعلن الذي تسعى الى تحقيقه خلال زيارتها السابعة الحالية في وقت فقد مكوكها قوة دفعه وزخمه واصبح يتحرك دون الهدف السياسي المعلن لجولاتها المكوكية وهو اقامة او الاتفاق على اقامة دولة فلسطينية قبل انتهاء ولاية بوش الثانية اوائل العام المقبل .
غير ان النجاح الباهر الذي احرزته رايس من المنظور الاميركي للاهداف الحقيقية لدبلوماسيتها يوضح بما لا يدع مجالا لاي شك بان الهدف المعلن لاقامة دولة فلسطينية لم يكن سوى سحابة صيف بيضاء اطلقتها الدبلوماسية الاميركية للتغطية على الاهداف الحقيقية السوداء لهذه الدبلوماسية في الوطن العربي الكبير واقليمه الشرق اوسطي .
فقد نجحت دبلوماسية رايس اولا في تخفيف الضغوط على ادارة بوش الناجمة عن معارضة الراي العام الاميركي للحرب العدوانية على العراق وللفشل الذريع الذي تمثله هذه الحرب في مجال السياسة الخارجية لادارته بتوفير “قصة نجاح” لسياسة بوش الخارجية تمثلت باطلاق “عملية سلام” ومفاوضات فلسطينية اسرائيلية لاول مرة منذ انهيار قمة كامب ديفيد اواخر عام الفين . وقد تمكنت رايس بذلك من تحييد قوة ضغط اللوبي الاسرائيلي النافذ في أي معارضة داخلية يقودها الحزب الديموقراطي المنافس لسياسة ادارتها الخارجية . وقد استثمر الرئيس بوش “قصة النجاح” هذه الى الحد الاقصى عندما قام بزيارتين لدولة الاحتلال الاسرائيلي خلال خمسة اشهر في سابقة تاريخية لم يسبقه اليها أي من أسلافه .
ونجحت دبلوماسية رايس ثانيا في استثمار نجاحها في “تحريك” عملية التفاوض الفلسطينية الاسرائيلية في تحويل الانظا
ر الاميركية والدولية عن الفشل الذريع الذي تواجهه السياسة الخارجية الاميركية في افغانستان والعراق ولبنان وسوريا وايران والصومال والسودان ومؤخرا في جورجيا والقوقاز وفي استثمار الاولوية التي يحظى بها حل الصراع العربي الاسرائيلي لدى المجتمع الدولي لشراء صمت هذا المجتمع على جرائم الحرب الاميركية في تلك الساحات الساخنة .
ر الاميركية والدولية عن الفشل الذريع الذي تواجهه السياسة الخارجية الاميركية في افغانستان والعراق ولبنان وسوريا وايران والصومال والسودان ومؤخرا في جورجيا والقوقاز وفي استثمار الاولوية التي يحظى بها حل الصراع العربي الاسرائيلي لدى المجتمع الدولي لشراء صمت هذا المجتمع على جرائم الحرب الاميركية في تلك الساحات الساخنة .
ونجحت رايس ثالثا في ايقاع العرب والفلسطينيين منهم بخاصة في فخ مبادلة الوعد الاميركي بدولة فلسطينية ب”غض النظر” عن الاحتلال الاميركي للعراق ، لا بل ان “غض النظر” هذا قد استدرج تحت الضغط الاميركي المتواصل للانزلاق الى الاعتراف الرسمي العربي بالوضع السياسي المنبثق عن الاحتلال واضفاء “شرعية عربية” عليه كما يدل الانفتاح الدبلوماسي العربي على هذا الوضع .
كما نجحت دبلوماسيتها رابعا في انتزاع تهدئة على الجبهة الفلسطينية ، وكان اشتعال هذه الجبهة في توقيت كان مشروع الاحتلال الاميركي للعراق فيه يمر في مرحلة فاصلة عصيبة سيشعل المشرق العربي برمته ويشتت الجهد الاميركي وقد نجحت دبلوماسيتها في التقاطع مع مصالح حليفيها المصري والاردني لتستثمر هذا التقاطع في انتزاع تهدئة منذ اتفاق القاهرة الفلسطيني الفلسطيني اوائل عام 2005 قبل الانقسام الفلسطيني ثم خلال العام الحالي بعد الانقسام الفلسطيني ليتساوى قطبا الانقسام في تقديم تهدئة مجانية على طبق من فضة دون أي مقابل سياسي ملموس كانت ادارة رايس بحاجة ماسة لها وما زالت .
ونجحت دبلوماسية وزيرة الخارجية الاميركية خامسا في استثمار هذه المبادلة لاستدراج “جبهة عربية – اسرائيلية” في مواجهة النفوذ الاقليمي والبرنامج النووي لايران باستخدام النفوذ الايراني في العراق ومضاعفاته الطائفية الاقليمية “بعبعا” ما كان له ان يكون اصلا لولا تسلله الى العراق تحت مظلة الاحتلال الاميركي الذي اوصل الاطر الطائفية لهذا النفوذ الى سدة الحكم في المنطقة الخضراء ببغداد ، وليس مستبعدا ابدا اذا ما وافق العرب على مبادلة التحييد الاميركي لهذا النفوذ بمنح شرعية عربية للاحتلال الاميركي ان يفجر هذا الاحتلال “بعبعا” عرقيا كرديا اقليميا يهدد بتحالف معلن مع دولة الاحتلال الاسرائيلي من اجل ابتزاز المزيد من التنازلات العربية لدعم مشروع الاحتلال الاميركي للعراق . وفي هذا السياق نجحت دبلوماسية رايس في استنزاف لبنان طوال عامين تقريبا لتحول “الازمة اللبنانية” الى عامل انقسام عربي جديد وفي السياق نفسه ايضا اعطت الضوء الاخضر لحليفها الاسرائيلي بهدف “تحريك” المسار السوري من اجل دق اسفين في الجبهة السورية الايرانية .
غير ان اهم نجاح لدبلوماسية رايس تمثل سادسا في تجنيد فريق فلسطيني خدعته بوعودها فاشترى بضاعتها السلمية الفاسدة وراهن على ادارتها لتفي بتلك الوعود ليتحول هذا الفريق بوعي او دون وعي منه الى اساس تبني عليه استراتيجيتها الاقليمية وتتخذ منه بطاقة مرور فلسطينية الى العواصم العربية المترددة في رفض تاييد استراتيجية ادارتها تجاه العراق اولا ثم تجاه ايران لتتحول “الجزرة” الاميركية للعرب هذه المرة الى “جزرة فلسطينية” بينما ظلت عصاها الاسرائيلية مرفوعة في وجوههم احتلالا واستيطانا في فلسطين والجولان ومزارع شبعا وعصاها الاميركية احتلالا في العراق واساطيل حربية تبحر قبالة السواحل العربية وقواعد وتسهيلات عسكرية تحد من السيادة الوطنية فوق الارض العربية .
اذ بدون هذا الفريق الفلسطيني ما كانت مبادرة السلام العربية لتمر في قمة بيروت عام 2000 لتعتمد التفاوض على “حلول متفق عليها” لحقوق فلسطينية ثابتة في القانون والشرعية الدولية وما كانت هذه المبادرة الكريمة حد الافراط في السعي الى السلام لتتحول الى دفع مسبق لثمن بضاعة لم يكتف بائعوها بعدم تسليمها حتى الان بل انهم حولوها الى اداة لامتهان الكرامة العربية بالمساومة عليها لافراغها حتى مما هو ايجابي فيها استهتارا بالمبادرين اليها ، وبدون هذا الفريق ما كان الاجماع العربي قد استدرج الى فخ عملية انابوليس الخادعة وبدونه ما كان في وسع دبلوماسية رايس ان تنجح في اجهاض النجاح الذي حققته الوساطة العربية في توحيد الصف الفلسطيني وبدونه ما كان في وسع رايس ان تنجح في ادامة الانقسام الفلسطيني لكي تتخذ منه ذريعة لعدم وفاء ادارتها بوعودها السلمية ولتسويغ عدم الالتزام الاسرائيلي باستحقاقات “عملية انابوليس” .
ونجحت دبلوماسية رايس سابعا في تكبيل هذا الفريق الفلسطيني ب”اليات امنية” منبثقة عن “عملية انابوليس” التي تلفظ انفاسها الاخيرة بحيث لم يبق منها سوى هذه الاليات بالرغم من ان الهدف السياسي المعلن الذي انشئت هذه الاليات من اجله لم يعد له وجود و”رؤية بوش” التي سوغت انشاءها قد تبددت لا بل ان الرئيس ال
اميركي صاحب هذه الرؤية وادارته لم يعد لهما أي صلاحيات تنفيذية غير الاعداد لتسليم هذه الصلاحيات لادارة حكومية جديدة في كانون الثاني / يناير المقبل . ان استمرار وجود وتفويض الجنرالات الاميركيين الثلاث وليم فريزر وجيمس جونز وكيث دايتون الذين يشرفون على التزام الجانب الفلسطيني بتنفيذ اليات التنسيق الامني مع دولة الاحتلال الاسرائيلي قد فقد هدفه السياسي المعلن ولم يعد له اي هدف غير خدمة اهداف الاحتلال وامن توسعه الاستيطاني وامن الجدار “الامني” الذي لم يعد حتى المفاوض الفلسطيني يشك في انه هو الحدود الجديدة التي تسعى دولة الاحتلال لترسيمها لنفسها في الضفة الغربية .
اميركي صاحب هذه الرؤية وادارته لم يعد لهما أي صلاحيات تنفيذية غير الاعداد لتسليم هذه الصلاحيات لادارة حكومية جديدة في كانون الثاني / يناير المقبل . ان استمرار وجود وتفويض الجنرالات الاميركيين الثلاث وليم فريزر وجيمس جونز وكيث دايتون الذين يشرفون على التزام الجانب الفلسطيني بتنفيذ اليات التنسيق الامني مع دولة الاحتلال الاسرائيلي قد فقد هدفه السياسي المعلن ولم يعد له اي هدف غير خدمة اهداف الاحتلال وامن توسعه الاستيطاني وامن الجدار “الامني” الذي لم يعد حتى المفاوض الفلسطيني يشك في انه هو الحدود الجديدة التي تسعى دولة الاحتلال لترسيمها لنفسها في الضفة الغربية .
ولم يعد لوجود هؤلاء الجنرالات أي علاقة باي “عملية سلام” ذات حد ادنى من الصدقية ، مثله مثل أي زيارة جديدة لرايس ، فوجودهم وزياراتها التي لم يعد المراقب قادرا على عدها لم يستطع تفكيك “بؤرة” واحدة مما تسميه مصطلحات الاحتلال البؤر الاستيطانية العشوائية ولم تحرك حاجزا رئيسيا واحدا من مكانه من الحواجز العسكرية التي تقيمها قوات الاحتلال في الضفة الغربية . ان الهدف الوحيد الظاهر لزياراتها ووجود جنرالاتها هو استمرار تكبيل القيادة الفلسطينية في رام الله باليات التنسيق الامني حفاظا على تهدئة الجبهة الفلسطينية ، ومن اجل ذلك فان من المتوقع ان تكون رايس جادة فعلا خلال زيارتها الحالية في ابقاء المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية “متحركة” لان الاهداف الحقيقية لدبلوماسيتها التي دفعتها الى “تحريك” هذه المفاوضات ما زالت لم تنجز بعد وما زالت بحاجة الى الغطاء الذي يمثله تحريكها .
والسؤال الهام هنا هو لماذا يستمر المفاوض الفلسطيني وظهيره العربي في الوقوع طوعا في هذا الفخ الدبلوماسي الاميركي وفي لعب لعبة هي اولا واخرا لعبة دبلوماسية اميركية – اسرائيلية لخدمة اهداف اميركية – اسرائيلية لا علاقة لها بحل الصراع العربي والفلسطيني – الاسرائيلي ولها كل علاقة بمخططات الحليفين الاقليمية في الوطن العربي واقليمه الشرق اوسطي !
وفي ضوء استمرار رهان المفاوض الفلسطيني على واشنطن لا يتوقع احد من هذا المفاوض الرغبة او القدرة على رفض استقبال رايس او مطالبتها بتجميد تفويض جنرالاتها الثلاث ، وهذا في حد ذاته انجاز ثامن لدبلوماسية رايس ، لكن ما زال في امكان هذا المفاوض للحفاظ على ما قد يكون تبقى له من صدقية ان يقتصر في استقباله لها هذه المرة على ما تقتضيه اللياقة الدبلوماسية من مجاملة فهي لا تستحق اكثر من ذلك كونها مرغت كرامة هذا المفاوض بالتراب بوعودها الكاذبة حتى لم تبق له أي حد ادنى من المصداقية لدى شعبه ، خصوصا بعد ان عاد من زيارته الاخيرة لواشنطن بخفي حنين وبخيبة امل معلنة لم يستطع اخفاءها .
غير ان تحذيرات وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني امام الصحفيين الاجانب يوم الخميس الماضي قبل ثلاثة ايام من زيارة رايس من انفجار وشيك ل”العنف” تكاد ترقى الى التهديد بعدوان واسع جديد قد يوحي في ظاهره انه سيكون موجها ضد الخصم السياسي للمفاوض الفلسطيني لكنه في الحقيقة يستهدف كل قيادة واي قادة للشعب الفلسطيني بهدف ارغامها على الاذعان لاملاءات الاحتلال لفرض تسوية سياسية للقضية الفلسطينية لا يكون هناك أي فرق بينها وبين تصفية هذه القضية .
وهذا التحذير الاسرائيلي بقدر ما يحمل دولة الاحتلال المسؤولية عن التهديد بقلب استراتيجية التهدئة الاميركية على الجبهة الفلسطينية راسا على عقب ويعفي المفاوض الفلسطيني من اعباء لا يستطيعها ولا يريدها لقلب هذه الاستراتيجية فانه يكشف ايضا عن ورقة قوية بيد المفاوض الفلسطيني ما زال في وسعه استخدامها او التهديد باستخدامها لقلب الاستراتيجية الاميركية في المنطقة بكاملها راسا على عقب اذا استمرت دبلوماسية المكوك الاميركية تستهدف فقط تحريك عملية للسلام خدمة لمخططاتها الاقليمية ولا تستهدف جادة صنع حل عادل وشامل للصراع العربي الاسرائيلي حده الادنى قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي .
*كاتب عربي من فلسطين