عبد الله عطيـة السـلايمه
الصدفة أم تراه حظه العاثر،لا يعرف أي منهما على وجه التحديد،دفع به عصر ذلك اليوم أن يسلك الطريق المار بمحاذاة مزرعتهم،دعوتها التى حملتها نظراتها الخاطفة والخجولة المصوبة إليه،لم تشغلها وحدها عن مواصلة اقتلاع الأعشاب المنتشرة حول جذوع أشجار الليمون،التى لم تثمر بعد ، بل شغلته بدوره عن مقصده .
لقاءا تهم المسروقة والمسيجة بمحاذير البداوة،وهو الذى لا ينتمي إلى قبيلتها لم تطل،إذ سرعان ما استدارت عيون جماعتها تتربص به،ولما نجحوا فى اصطياده ، بالكاد أفلت من قبضتهم بعد أن أوجعوه ضرباً .
كوسيلة ـ اعتقد ـ أبوها أنها المثلي للخلاص من عارها ..!،قرر ألا يرد أول طارق لبابها،لذا لم يتردد حينما تقدم ” فالح ” يطلب يدها .
“حماتها” الذى لم يصغ ابنها منذ البدء لنصحها،اعتبرتها نذير شؤم،فأخذت تعد عليها أنفاسها،تؤلب عليها زوجها،فاستحالت العشرة بينهما،لكنها كلما غادرت إلى بيت أبيها يجبرها على العودة إليه.
ساخطة،سارت خلفه متثاقلة الخطى،تنازع أفكاراً تكاد تعصف بمخيلتها،ولاتنا سب بداوتها،صوته الذى تكرهه،ويحثها على العجلة لكى يصلا قبل حلول الظلام،لم يهدأ من صخب حالة رفض تتملكها ،وتدفعها بقوة لخداعه،لم تراهن ـ كعادتها ـ على الوقت ، حاولت شحذ عزيمتها بقول شاعر بدوى لا تعرفه “ميتٍٍٍٍٍِِِِ بالحسرات من دارى العواقب”،فأوهمته على الفور برغبتها فى قضاء الحاجة التى فاجأتها.
إن لم تمتلك الجرأة ،قطعاً ستفشل فى الوصول لقناعات تصبو إليها،ذلك ما آمنت به وهى تتوارى حذرة خلف شجرة الأكاسيا،تعاقر رغبة عدوانية تدفعها بجسارة لاتخاذ قرار مصيري،إلا أن دوامات خوفها تدفعها فى قسوة لتخيل عقاب لا تجهل بشاعة إذا ما فشلت محاولتها تارة،وتارة أخرى تتقاذفها أمواج توجسها من سياط ألسنة،سوف تنال من سمعتها بلا شفقة إذا ما نجحت .
يائسة،تخيلت أشجار الأحراش المتناثرة حولها،تنقلب إلى أشباح،تنبعث منها عيون لاحصر لها، تحدق إليها فى جرأة،ارتعدت أركانها ذعراً ،فأسرعت لتحتمي بزوجها .
الرغبة المحمومة فى التحرر من طوق عتمة يخنقها تؤرق منامها،تشعل فيه حريقاً،نجح سعاره فى دفعها لاجتياز مساحات تردد،ترى فيه هلاكها،فتسحبت على رؤوس أصابع قدميها فى حذر،ثم أطلقت العنان لساقيها هاربة.
صدمته اليقظة لما لم يجدها بجواره،ولما حالت الظلمة بدورها دون اقتفائه أثرها،جلس على جمر ظنونه وهواجسه،لكنه ما إن لاحت فى الأفق نذر النهار حتى ألقى بالخبر كقنبلة تفجرت فى وجه أبيها،فجلس يولول بقوله:”يافضيحتى بين العربان”،بينما هى تنسل فى تلك اللحظة إلى بيت مجيرها.
مال الصبي يهمس فى أذن أبيه الجالس بين جماعته فى”ديوان”العشيرة ،فانتفض الرجل على الفور مغادراً،بينما تلاحقه نظراتهم المتسائلة فى حيرة .
تنحنح معاناً عن قدومه،سرت فى بدنها النحيل رجفة،ما إن حياها حتى استغاثت به مهزومة فى رجاء بقولها :
ـ ” أنا داخلة على الله وعليك ياشيخ “
أخذ يهدأ من روعها ، ثم باغتها بسؤال تنتظره :
ـ ” من وين المستورة “
ولما أخبرته،اسقط فى يده،لكن سرعان ما غلب نخوته حنقه على من تعدوا على واحداً من رعيته، فأوصى زوجته بها خيراً،وعاد أدراجه مثقلاً بحيرته من خفايا قدر يعبث بمصائرهم فى استخفاف لايليق بآدميتهم .
صمته الذى لم يطل،يزيد من سطوة حيرة جماعته بدورهم،إلا أنه بإعلانه رغبته فى دفع واحد من بينهم ليخبر أهل”طنيبته” ألقى بهم إلى جوف دواماتها.
مثقلون بخزيهم جلسوا،وفى محاولة للتخفيف عنهم،وحفاظ على روابط قبلية يحرصون عليها، وضعهم الرجل أمام خيارين: إما أن يلبوا مطلب”طنيبته”فى ود،أو اللجوء إلى قضاء عرفى يفصل فى قضيتهم،ولأنهم يعرفون بأن قضائهم لن يسعفهم بحل آخر،لم يجدوا مفراً من الرضوخ صاغرين لمطلبها،إلا أن نشوة انتصارها لم تطل،ولم تعفها من ذلة ظلت تعاني وطأتها،حتى دفع حظها المتعثر بمن ترمل ،فتقدم يطلب يدها لتربى أولاده،فقبلته كمُخَلّصٍ.