“حجه والناس راجعه” مثل شعبي يقال للتعبير عن الأعمال والأمور التي تتم في غير موعدها، وخاصة تلك التي تأتي متأخرة عن وقتها الطبيعي، وهذا المثل الشعبي ينطبق بحذافيره وتفاصيله على قوى اليسار الفلسطيني التي تسعى هذه الأيام لتشكيل “جبهة اليسار الفلسطيني” انطلاقا من قطاع غزة، والهدف الرئيس لهذه الجبهة اليسارية هو ”درء العواقب الوخيمة لحالة الاستقطاب الثنائي الحاد التي تُكرس الانقسام في الساحةالفلسطينية وعلى تشكيل عامل توازن وصمام أمان للوحدة الوطنية الفلسطيني” هذا ما صرح به زكريا الجعفري عضو القيادة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطينفي إطاره شرحه لمصوغات تشكيل جبهة اليسار الفلسطيني .
ومن يسمع بهذه الأهداف وتلك الغايات المعلنة لجبهة اليسار العتيدة يعتقد أن حالة الاستقطاب الثنائي لم تنخر واقعنا السياسي والحياتي اليومي حتى نخاع العظم وعلى مدار أكثر من عامين حتى بات علاجها أشبه بالمستحيل، وإن الوحدة الوطنية لا زالت بخير وفي أحسن صورها.
وخطوة اليسار في تشكيل جبهة اليسار الفلسطيني محكوم عليها بالفشل المطلق قُبيل انطلاقها، وهذا الحكم ليس من باب الأحكام ولا الآراء المسبقة تجاه هذه القضية بقدر ما أن المعطيات على الأرض لا تبشر بخير وهي التي تصدر حكمها على مثل هذا التوجه.
وهذه المعطيات تتمثل في أن تشكيل هذه الجبهة جاء متأخرا أكثر من عامين، فهذا التشكيل كان من المفترض أن يكون قُبيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية الثانية في كانون ثاني 2006، كون جسم كهذا كان بإمكانه تشكيل قوة نيابية يمكنها من أن تشكل بيضة ألقبان في ضبط الوضع الداخلي الفلسطيني، ولربما كانت في حينه بمثابة الضمانة لعدم وصول الحالة الفلسطينية لما هي عليه اليوم من انقسام وتشرذم عُمدا بدماء مئات القتلى وآلام آلاف الجرحى والمصابين.
وحالة الصراع الداخلي غير المُعلنة التي يعشيها اليسار الفلسطيني ستكون عامل آخر في فشل تشكيل مثل هذا الإطار اليساري، وهذا الصراع ليس على برامج سياسية أو خلاف على الأولويات الوطنية بقدر ما هو خلاف على مناصب وتسميات قيادية داخل هذا الإطار (قياساً على تجارب سابقة لليسار الفلسطيني)، ففشل تشكيل جبهة موحدة لليسار الفلسطيني في الانتخابات الرئاسية الفلسطينية 2005، والانتخابات التشريعية الثانية 2006 كان مرده لمن يحتل رأس الهرم في هذا التحالف؟، وما هي مواقع مرشحي كل جبهة أو حزب في القوائم الانتخابية؟، مما أدى لفشل تشكيل تيار ديمقراطي قوي يعكس دوره النضالي عبر سنوات النضال الطويلة التي خاضها.
والدور السلبي لقوى اليسار الفلسطيني قاطبةً في مرحلة مواجهات وصدامات غزة جعلتها غير مؤهلة وغير ذات ثقة بالقيام بمثل هذا الدور التوحيدي والتصالحي على الساحة الفلسطينية، والسلبية تجلت في التزام قادة اليسار الفلسطيني بشكل عام والجبهتين الشعبية والديمقراطية بشكل خاص الصمت والانطواء في مرحلة المواجهات الدامية في قطاع غزة، وعملهم كصليب أحمر في تلك الحقبة السوداء من تاريخنا والتي سنبقى ندفع ثمنها لسنوات طوال قادمة، وعدم كشفهم لحقيقية ما جرى على الأرض من أحداث جعلهم يفقدون ثقة الشارع بشكل عام ومؤيديهم بشكل خاص للقيام بمثل هذا الدور، فبدلاً من أن يكونوا جدراً فاصلاً بين المتحاربين وعوناً للمواطن في معرفة الحقيقية وكشف المتسببين بالأزمة تركوا الشارع الفلسطيني فريسة لوسائل الإعلام الحزبية التابعة لطرفي الاستقطاب لبث رؤيتها وتفسيرها للمواجهات بشكل عمق من حالة الاستقطاب الثنائي في الشارع الفلسطيني، ناهيك عن بعض وسائل الإعلام الأخرى التي ركبت الموجه لتزيد من حدة الصراع والمواجهات على الساحة الفلسطينية.
وضعف اليسار الفلسطيني وانعدام تأثيره في القيام بدوره الوطني المطلوب منه تمثل في فشل كافة مبادراته التي طرحها لتحقيق المصالحة والوحدة، فقد أصبح لديه ما يشبه البازار لمبادرات الحوار والمصالحة الوطنية وكلها كانت تدفن في مهدها، والسبب لم يكن تعنت طرفي الانقسام على الساحة الفلسطينية وتشبثهم بمواقفهم فقط، بل كان لافتقاد هذه المبادرات لزخم شعبي لدعمها عامل مهم في فشلها، وهذا طبعاً يؤكد على أن ما بقي من اليسار الفلسطيني هم تلك القيادات التي وجدت في مبادراتها التصالحية وسيلة للتأكيد على وجودها في الحياة السياسية الفلسطينية، وممارسة ترفهم الفكري والسياسي لا أكثر ولا أقل.
هذا على مستوى اليسار الفلسطيني نفسه، ولكن إن أردنا التوسع في الموضوع باتجاه آخر فسنرى أن خطوة التوجه نحو جبهة لليسار في الظرف الحالي بالتحديد هو اعتراف صريح وواضح من فصائل وأحزاب اليسار الفلسطيني بفشلهم في تحقيق أي تقدم في إطار إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية والخروج بها من حالة الترهل وعدم تمثيلها لكافة أبناء الشعب الفلسطيني وفق توصيات اجتماع القاهرة أيار 2005، بالتالي لن يكون الحل بالهروب إلى تسميات وأطر أخرى لن تتمكن من العيش في ظل الظرف السياسي الموجود حالياً.
ولتأكيد صحة هذه التوقعات وقراءة واقع اليسار الفلسطيني بدقة علينا العودة لنتائج الانتخابات التشريعية الثانية ،2006 وقراءة نتائج الاستطلاعات التي تنشر في الأراضي الفلسطينية المحتلة لنرى درجة الضعف والوهن التي يعيشها هذا اليسار، فتنظيمات ناضلت على مدار عشرات السنيين ضد الاحتلال، وقدمت آلاف الشهداء والمعتقلين والجرحى وجدت نفسها بلا جماهير وبدون شعبية في الشارع الفلسطيني يوازي حجم تضحياتها التي قدمتها، فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حصلت على ثلاثة مقاعد في الانتخابات التشريعية الثانية بعدد أصوات بلغت (42101) صوت، أي ما يعادل 4% من مجموع أصوات الناخبين، في المقابل حصل تحالف الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب وحزب فدا ومستقلين على مقعدين بعد حصولهما على ( 28973) صوت، أي ما يعادل 2.7% من أصوات الناخبين، أي أن جبهة اليسار المنوي تشكيلها لا تحظى بأكثر من 7% من التأيد الشعبي، في المقابل لم ينجح أي تنظيم سياسي من اليسار الفلسطيني بالفوز ولو بمقعد واحد على نظام الدوائر، ومن خاضوا انتخابات الدوائر باسم تنظيمات اليسار كانت نتائجهم أقرب للمهزلة والسخرية.
وهذا الواقع لتنظيمات اليسار الفلسطيني يجعلها مضطرة للإجابة عن تساؤلين إن هي أرادت فعلاً الخروج من حالة الضعف والتشرذم التي تعيشها، وأول هذه الأسئلة ما هي الأسباب لانعدام التوازن بين التاريخ النضالي لقوى اليسار وحجم التأيد الشعبي لها في الشارع الفلسطيني؟، وثاني هذه الأسئلة هو ما هي الأدوات والسبل التي ستستخدمها لتكون جبهة اليسار العتيدة ذات قدرة للتأثير الإيجابي في حالة الاستقطاب الرديئة في الحالة الفلسطينية؟.
فلسطين 25/08/2008