ماذا لو كنا ما نزال نعيش في دولة موحدة, أكان لقضية إثبات دخول غرة الشهر الهجري أن تحظى بكل هذا الجدل والتفلسف…يعني لو كانت الأردن ومصر والحجاز دولة واحدة مثلاًَ هل كان من الممكن او المعقول ان تسمح حكومة هذا الإتحاد بان تصوم الاردن في يوم تفطر فيه مصر مثلاًَ. ولنا أن نتصور العكس, لو كانت مصر دولتين بحكومتين في الشمال والجنوب, إذن لسهل تصور أن تبدأ دولة الجنوب الصيام قبل دولة الشمال لأن الهلال رؤي في الصعيد بينما لم يره أهل القاهرة والأسكندرية.
فالمسألة إذن ليست إختلاف مطالع وحسب بل إختلاف قلوب وأهواء وولاءات سياسية إقليمية تعبر عن نفسها في رغبة هذه الانظمة في تكريس حالة التشرذم والتفسخ الإقليمي بين أبناء الأمة الواحدة لإضفاء نوع من الشرعية التبريرية لوجودها القائم اصلاًَ كإنعكاس لحالة التشرذم هذه.
وهكذا فالنظام السياسي الحاكم ينتقي من الشرع ما يوافق حاجاته ويبرر وجوده ويستبعد كل ما من شأنه أن يمثل تحدياًَ لسياساته.
فالقاعدة الشرعية “لمصر هلال وللحجاز هلال” تمثل تماماًَ إنعكاساًَ للقاعدة السياسية “لمصر نظام وللحجاز نظام”, لأنه لو كان لمصر وللحجاز نظام سياسي واحد لتم تطبيق القاعدة الشرعية القائلة بوحدة الأهلة.
غير أن لعبة الأنظمة هذه قديمة ومعروفة, أما جديد اليوم فهو دخول الإمبريالية العالمية على الخط, حيث أن الإمبريالية الحديثة تعتبر أن حالة التفسخ والإنقسام العربي وإنهيار دولة الوحدة ونشوء دويلات سايكس بيكو أصبحت (موضة) قديمة صنعها الإستعمار القديم أما الاّن فهي لا تلائم عصر الإستعمار الحديث والعولمة وغزو الشركات متعددة الجنسيات وعابرة القارات, ولذلك فالمطلوب هو مزيد من التجزئة والتفتيت لهذه الدول المجزئة أصلاًَ بحيث يتم خلق مرجعيات محلية متنوعة ومتناحرة فيما بينها داخل حدود الدويلة الواحدة عبر إيقاذ الحس الطائفي والمذهبي ودعم مشاريع حقوق الأقليات, الخ.
ولأنه ليس في سياسة القوم أخلاق, فأنهم لا يتورعون عن إستخدام جميع الادوات المتاحة لتحقيق ماّربهم ومنها إستغلال القراّن نفسه والرموز الدينية .
وهكذا وعلى سبيل المثال لا الحصر, تتحول مراسم عاشوراء إلى مناسبة للشحن المذهبي ولتعزيز الفرقة والإنقسام بين أبناء الوطن الواحد, فكيف للقوم ان ينسوا دم الحسين الذي سفكه (النواصب), فلنروي الأرض من دم النواصب إذن, أما الطرف المقابل فيستغل المناسبة نفسها لتذكير أبناء ملتهم, بفسق الروافض وبدعهم وكرههم وتطاولهم على الصحابة, وهكذا بين النواصب والروافض تضيع العراق وتتحول إلى إقليمين متعاديين وشكراًَ لعاشوراء وللحسين ولإبن تيمية.
ولنعد الاّن لموضوع المقال, فرمضان الذي أريد منه تعزيز وحدة الأمة الشعوري والسياسي وتاكيد إنتمائها لدين وثقافة وممارسات وعادات موحدة, أصبح يستغل هذه الايام لإثبات العكس تماماًَ, حيث يريد اعداء الأمة مع كل بداية وإنتهاء للشهر الكريم في كل عام إقناعنا بإننا وبعد اربعة عشر قرناًَ من تجربة الوحدة الأولى أبعد ما نكون اليوم عن ان نكون امة واحدة.
وكيف لا ورمضان في لبنان يبداَ بثلاثة تواريخ مختلفة وينتهي بثلاثة وربما اكثر حسب الطائفة والإنتماء السياسي, وثلاث بدايات ونهايات في العراق حسب المذهب, وفي الجزيرة العربية بل وفي الحجاز نفسه عدة بدايات ونهايات حسب المذهب والطائفة (سنة, شيعة إثني عشرية في شرق الجزيرة والبحرين والكويت, إسماعيلية في نجران, الخ) وفي اليمن تاريخين (زيدي وشافعي), حتى أن الإنقسام وصل إلى مصر فالسلفيون يتبعون إعلان السعودية والباقون يتبعون الازهر, وفي الشام هناك من يتبع مبدأ وحدة الأهلة خاصة التحريريون وهناك من يرضخ لقاعدة إتباع الجماعة سواءاًَ عن إقتناع أو مكرهاًَ خوفاًَ من أن يكسر عصا الجماعة وكأنه بقي في امتنا من عصي لتكسر.
ولكن اللافت للنظر, أنه وخلال السنوات الأخيرة بدأت تطل علينا فتنة جديدة تتعلق بإشكاليتي الرؤية البصرية ومسألة الحساب الفلكي, وكأن هذا اّخر ما ينقصنا, وهو إنشاء طائفتين جديدتين وإضافتهما للطوائف التي تملأ الأمة, ولم لا فنحن في عصر السوبر ماركت وتنوع السلع.
وهكذا يصوم فريق حسب رؤية الشهود وإن خالفت الحساب ويصوم أخرون حسب قول الحساب وإن لم يرى الهلال أحد, ولكل حججه واسانيده وأسلحته, فالأول يتمترس وراء النص والثاني يتمترس وراء الناظور, وبين فلسفات هؤلاء وهؤلاء لا تجني الأمة غير مزيد من التفسخ والتشرذم.
المشكلة من وجهة نظر العبد الفقير إلى الله, لا تكمن في طرق تحديد دخول الشهر وإنتهائة, بل تكمن في عدم رغبة قيادات وعلماء هذه الأمة في إقرار الأصل, وهو أننا أمة واحدة هكذا أراد الله لها أن تكون وهكذا يجب, وأن هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في منتصف النهار لأكثر وضوحاًَ من الهلال في الليل بل ويمكن رؤيتها وببساطة طوال أيام السنة وبالعين المجردة ويمكن كذلك إثباتها علمياًَ وحسابياًَ, وأن وجوب وحدة الأمة هو اصل شرعي ثابت وقطعي الدلالة بخلاف طرق رؤية الهلال وهي ظنية الدلالة والثبوت ولا يقد
م الظني على القطعي ولا يرجح الفرع على الأصل.
م الظني على القطعي ولا يرجح الفرع على الأصل.
وان العين التي لا ترى أن الاقصى في خطر وأن فلسطين والعراق والصومال محتلة وان الأمة متفرقة وأوضاعها مختلة ليست مؤهلة لأن ترى هلالاًَ يولد ليلاًَ في السماء.