ذلك الفهم الذي تحدثنا عنه في الحلقة الماضية، الذي باعتقادي أنه خاطئ عن تاريخ الغرب، وأنه كانت أحد مراحله دينية (سماوية) على اعتبار أن النصرانية التي اعتنقتها الغرب هي ديانة سماوية لم يمسحها التحريف أو التبديل والتزوير، ولم تختلط بالوثنية والعقائد البشرية التي كانت شائعة ويعتقها الشرقيين والغربيين قديماً، هو الذي تسبب في الفهم الخاطئ الذي شاع بين السواد الأعظم من المفكرين والكتاب وفي المناهج الدراسية والكتب الثقافية بأن مرحلة العصور الوسطى الأوروبية التي امتازت بانغلاق الغرب وعزلته داخل حدود قارته الأوروبية عن العالم، وما ساد فيها من الجهل والتخلف والظلم والاستبداد والسحر والشعوذة، ومحاربة العلم والعلماء …إلخ مما كانت عليه أوروبا في تلك العصور؛ كان كله سببه الكنيسة والدين النصراني (السماوي) الذي حكم أوروبا طوال تلك الفترة، وأنه عندما تحررت أوروبا من سيطرة الكنيسة وحُكم رجال الدين النصراني لها فإنها حققت كل هذا التقدم، وبناء على ذلك على كل مَنْ يريد من شعوب العالم وخاصة الإسلامي اللحاق بركب المدنية والتقدم الغربي أن يتخلى عن دينه وأن يُحاصر الدين داخل جدران أماكن العبادة، وألا يتجاوز العلاقة بين الإنسان وربه! وهكذا أصبح من البدهيات في التاريخ الأوروبي الفصل بين المرحلة الوثنية والدينية والعلمانية إن جاز التعبير. متجاهلين أن تاريخ أوروبا كله علماني وأنه لم تكن النصرانية دين سماوي ومنهج حياة شامل يجمع بين الدنيا والآخرة كما هو الإسلام، وأن الذي حدث في أوروبا هو تصحيح الوضع الخاطئ الذي كان سائداً في تلك العصور وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح لأن الأصل في النصرانية هو فصل الدين عن السياسة؟!. ثانياً: الأصل في النصرانية هو فصل الدين عن السياسة إن الوضع الصحيح للعلاقة بين الدين والدولة في النصرانية هو الفصل وليس الربط بينهما، فقد جاء في الأناجيل كما يدعون على لسان المسيح عليه السلام، والمسيح منه براء: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله). ولأن الغرب نتاج الجهد البشري فإنه يختار لنفسه ما يراه يُصلح حاله بحسب الزمن والتطور الذي يحدث في واقع الحياة والمجتمع. لذلك هو عندما جمع بين الدين والسياسة في العصور الوسطى الأوروبية الذي تسبب في تلك القرون العشرة في العزلة والجهل والتخلف، والاستعباد والإذلال للإنسان الغربي باسم الدين، كانت تقتضي مصالحه ذلك. فالإمبراطور الروماني قسطنطين عندما شعر بقوة الاعتقاد النصراني عند أتباع إمبراطوريته من الشعوب المختلفة، وخشي على إمبراطوريته من التفكك وضياع سلطانه، قَبِل بالنصرانية ديناً رسمياً للإمبراطورية، وثم بعد قبوله بالنصرانية دين رسمي للإمبراطورية الرومانية حدث انقسام عقائدي حول طبيعة المسيح إن كانت بشرية أو إلهية، ثم حول طبيعة الروح القدوس بين أتباع الإمبراطورية هدد بانقسامها وتمزيقها، وحرصاً من الإمبراطور قسطنطين على إمبراطوريته من الانقسام أو الاقتتال بين رعاياه كما سبق أن قَبِل بالنصرانية دين رسمي للإمبراطورية فإنه قَبِل بالأقانيم الثلاثة الوثنية واعتبرها جزء من الطبيعة الإلهية بعدها هو وخلفائه. على الرغم من أنها لم تكن من أصل الدين آنذاك، ولكنه استجاب إلى رغبة الأكثرية من الجهلة في إمبراطوريته، خوفاً من حدوث حالات انفصال أو تمرد في بعض أقاليمها. يقول فشر المؤرخ الإنجليزي: “إن حكمة الكنيسة المسيحية هدت آبائها الأولين إلى قبول ما لم يستطيعوا له منعاً من العادات والتقاليد والمعتقدات (!!) بدليل استقبال الكنيسة لمبدأ تعدد الآلهة الراسخ بين شعوب البحر الأبيض المتوسط، وتطويع ذلك المبدأ لما تقتضيه عقائدها”. ثم تطور الأمر بعد ذلك وقبل خلفائه من الأباطرة الشراكة بينهم وبين رجال الدين والكنيسة في حكم أتباع الإمبراطورية الرومانية. ثم اقتضى التطور والتحول الذي حدث في تلك الفترة من تاريخ المجتمعات الغربية، من مجتمعات زراعية إلى مجتمعات إقطاعية، أن يتم التحالف بين الإقطاعيين ورجال الدين والكنيسة، بحيث يقوم فيه رجال الدين الذين دخلوا على خط الإقطاع وتملك الإقطاعيات الكبيرة، بتخدير مشاعر الفلاحين المستعبدين والمظلومين والمقهورين عند الإقطاعيين، وامتصاص نقمتهم، وإجهاض رغبتهم في الثورة والتمرد على ذلك الظلم، بكذبة: أن لهم ـ الفقراء ـ الجنة وملكوت السماء. وليت جشع رجال الدين النصارى وقف عند هذا الحد؛ ولكنه ازداد ليمتد إلى ما في جيوب الفقراء من الزهيد من المال إن توفر، ليسرقوه باسم صكوك الغفران التي أعطوا لأنفسهم الحق في منحها لهذا أو ذاك بدعوى التفويض الإلهي للبابا، الذي أصبح ظل الله على الأرض!. عودة الأمور لنصابها وعندما تطور المجتمع الغربي من مرحلة الإقطاع إلى البرجوازية بعد انتهاء العصور الوسطى الأوروبية، وبدء عصر النهضة الأوروبية وحدوث الثورة الصناعية في الغرب، وما يسميه المتغربين من أبناء الوطن بحركة الإصلاح الديني، ثورة مارتن لوثر الدينية ضد الكنيسة واحتكارها تفسير ما يسمونه الكتاب المقدس وأمور أخرى، وأدى إلى فتح المجال واسعاً كي يحقق الغرب ما حققه من تقدم علمي ورقى صناعي ورفاه مادي، وكل ذلك حدث بفضل علوم المسلمين التي نقلها الغرب عن المسلمين عبر فترات مختلفة من اتصاله بهم وفي أكثر من نقطة احتكاك جغرافية بينهما، وبعد ما أحدثته تلك التطورات في الغرب من صراعات دينية وقومية وعلمية وغيرها، وما أجرته من دماء ونكبات وتشريد كان للكنيسة الدور الأكبر فيها، وجد الغرب أن مصالحه
تقتضي الفصل بين السلطة الدينية (الكنيسة) والسلطة السياسية، أو المفهوم الشائع الفصل بين الدين والدولة. وقد ظن المخدوعين من أبناء وطننا من الذين تأثروا بالثقافة الغربية أن ذلك التقدم العلمي الذي حققه الغرب كان بفضل الفصل بين الدين والسياسة، أو هكذا أوحى لهم الغرب! لذلك طالبونا ومازال بعضهم يطالبنا بالفصل بين الدين والسياسة إذا نحن أردنا أن نلحق بركب الحضارة الغربية، على الرغم من أن الحقيقة غير ذلك؟!. فالثورة الصناعية والنهضة الأوروبية لم تكن ثورة ضد الدين؛ ولكنها كانت ثورة ضد تحالف الإقطاع والكنيسة، ضد الظلم والاستعباد والجهل والتخلف الذي كان يمارس باسم الحق الإلهي، وكان ضد هزيمتهما في الحروب الصليبية آنذاك، تلك الهزيمة التي أعمت شدتها أبصار الغرب الصليبي على أن يقبل عقيدة الإسلام في الوقت الذي أخذ منه جميع علومه التي كانت سبباً مباشراً في تحقيق نهضته وثورته الصناعية. لم يكن ما حدث ثورة ضد الدين، ولم يكن الفصل بين الدين والسياسة في الغرب انتقاماً من الدين النصراني، ولكنه كان تصحيحاً للوضع المقلوب في علاقة الدين بالمجتمع والدولة، وإعادة الدين إلى وضعه الصحيح والطبيعي في حياة المجتمعات الغربية، الذي أساسه (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله). كما أن التقدم الذي حققه الغرب بعد ذلك العصر لا يمكن أن يُعزى الفضل فيه إلى ما حدث من تصحيح للوضع الخاطئ الذي كان قائماً في الغرب فترة العصور الوسطى الأوروبية بالنسبة لعلاقة الدين بالسياسة، ولكنه يعود إلى علوم المسلمين التي أخذ بها الغرب وأسس بها ثورته الصناعية ونهضته العلمية، وإلى حرصه على ألا يفقد دور الريادة التي آلت إليه بعد فشل الحصار الإسلامي العثماني الثاني لفينا عاصمة النمسا عام 1683م، الذي حدد بعده طبيعة العلاقة بينه وبين المسلمين، حيث أعتبره المؤرخ البريطاني توماس آرنولد توينبي، في رسالته “الإسلام والغرب إيذانا بتحول الغرب إلى “قوة كاسحة وصاحبة السلطان في العالم حتى أنه لم يعد أمام الآخرين “المسلمين” خيار، فإما التغريب وإما الهلاك”. والغرب إن كان حقاً قد حقق نهضته وتقدمه العلمي بعد أن صحح الوضع الخاطئ لعلاقته بالدين مستعيناً بعلوم المسلمين، فإن الذي حدث عندنا هو؛ أننا تأخرنا وضعفنا بعد أن ارتكبنا خطئاً فادحاً بفصلنا للدين عن السياسة وواقع الحياة في مجتمعاتنا الإسلامية. فالحقائق التاريخية تثبت أننا منذ ذلك الفصل ونحن في تأخر وتخلف وتراجع، لأن الذي حدث عندنا ليس تصحيح لوضع العلاقة الخطأ بين الدين والسياسة كما حدث في الغرب والدين النصراني؛ ولكن كان ومازال ارتكاب لخطيئة تسببت في نشأة واقع خاطئ، تسبب في إحداث قطيعة بن الدين وشئون الحياة عندنا دون الالتفات إلى الفارق الساشع بين طبيعة ديننا الإسلامي الذي هو منهج دنيا وآخرة، علاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والمخلوقات الأخرى في الكون من حيوانات وطبيعة. لذلك يتوجب علينا إذا ما أردنا أن يصلح حال الأمة أن نعالج ذلك الخطأ الذي اقترفته أيدينا، وأن يعود الإسلام لتنظيم حياتنا، ولتشكيل هويتنا الثقافية، وأن نعيد العلاقة بين الدين والسياسة كما كانت سابقاً، علاقة انسجام وتكامل.