من المؤكد إن عملاء الاستعمار لا يعرفون انه سريع التخلي عنهم، لأنه يعرف إن من باع وطنه لا يستحق الاحترام، وغير جدير بالثقة، ولكن الله أعمى بصرهم وبصيرتهم عن الحق، فباعوا أنفسهم للأجنبي وسوف لا ينفعهم ندمهم عند ساعة الحساب.
على أية حال فان القوات الجوية البريطانية قامت بقصف المناطق الكردية وإنهاء العصيان في الشمال بعد أن استنفذت أهدافها منه، فقد حققت بريطانيا هدفها الاول بتوقيع الملك فيصل الاول للمعاهدة، ولكن بشرط أساسي ومهم، وهو عرض المعاهدة على المجلس التأسيس ليقول كلمته الفصل فيها على أن لا تتدخل بريطانيا في الانتخابات، وعندما تم انتخاب المجلس، وبدأ اجتماعاته في 27 آذار 1924 كانت المعاهدة العراقية البريطانية في مقدمة جدول أعماله ليناقشها قبل مناقشة مسودتي الدستور وقانون انتخابات المجلس النيابي، ولم تكن النتائج التي خرجت بها اللجنة التي شكلت في المجلس لإعداد تقرير عن المعاهدة، مرضية لبريطانيا، فقد أوصت اللجنة المجلس بالمطالبة بتعديل المعاهدة وملاحقها لأنها تمس مصالح العراق واستقلاله، وعندما طرحت المعاهدة والتقرير على المجلس، كان اتجاه المناقشات لغير صالح المعاهدة، إذ طالبت الأكثرية بإعادة المعاهدة إلى الحكومة العراقية للطلب من بريطانيا تعديلها وفقا لتقرير اللجنة قبل أن يصدقها المجلس، ولما كانت بريطانيا تصر على تصديق المجلس للمعاهدة كما وردت دون تعديل، فقد كان على المندوب السامي البريطاني أن يمارس الضغط على المجلس التأسيسي لتصديق المعاهدة دون تعديل فيها، ولم يجد وسيلة غير التهديد مرة أخرى بتجزئة العراق، وبالتلويح بقضية الموصل وإشعار العراقيين بان بلدهم سيتمزق وستصبح ولاية الموصل من نصيب الأتراك.
وبدأ التلميح بالتهديد قبل أن يناقش المجلس المعاهدة، ففي 26 نيسان 1924 كتب المندوب السامي إلى الملك فيصل قائلا : ” إن حكومته لا يسعها الموافقة على أية تعديلات وللمجلس الخيار في قبول المعاهدة كما هي او رفضها بكاملها وبالشكل الذي يراه الأفضل لمصلحة البلاد “، ولمح بلغة تهديد إلى أن بريطانيا لن تتخلى عن حق العراق في ولاية الموصل إذا صدقت المعاهدة، وبطبيعة الحال فان هذا يعني إن العكس سيحدث إذا لم يتم التصديق على المعاهدة، ولكي تمارس بريطانيا الضغط بالتهديد بتمزيق العراق، فقد تم توقيت عقد المفاوضات مع الأتراك في مؤتمر القسطنطينية قبل تقديم لجنة تدقيق المعاهدة تقريرها إلى المجلس التأسيسي العراقي بيوم واحد فقط، حين افتتح المؤتمر في 19 أيار 1924، وهكذا رافق عقد مؤتمر القسطنطينية عقد جلسات المجلس التأسيسي التي نوقشت فيها المعاهدة، وانتهى مؤتمر القسطنطينية بالفشل قبل التصويت على المعاهدة بعدة أيام.
عندما تصاعدت المناقشات لغير صالح المعاهدة حضر المندوب السامي البريطاني إلى المجلس التأسيسي بنفسه يوم 31 مايس 1924، يصاحبه مستشار وزارة الداخلية كورنواليس، واجتمعا برئيس المجلس عبد المحسن السعدون وأعضائه الحاضرين، وابلغهم المندوب السامي إن طلب تعديل المعاهدة يعد رفضا لها من المجلس بالنسبة لبريطانيا، وحذر أعضاء المجلس انه يجب عليهم ملاحظة تأثير سير أعمالهم على مفاوضات قضية الموصل وادعى إن الأتراك صاروا يؤكدون على مطالبتهم بالموصل بعد أن سمعوا بموقف المجلس من المعاهدة.
من جانب آخر فقد لعبت صحيفة الأوقات البغدادية التي كانت تصدرها دار المندوب السامي ببغداد، دورا كبيرا في تهديد أعضاء المجلس والعراقيين بتمزيق العراق إذا لم يتم التصديق على المعاهدة كما هي، فقد كتبت يوم 2 حزيران 1924 تقول ” انه يجب أن يفهم الجميع اليوم وكل يوم، إنهم إذا لم يصادقوا على المعاهدة، فمن المحتمل أن يضيعوا الموصل، وذا صادقوا عليها فبريطانيا تبذل كل ما في جهدها لإبقاء ولاية الموصل جزءا من العراق، ولن تدافع عنها بريطانيا إذا لم تصادق المعاهدة، علما بان العراق في وضعه الحاضر لا يستطيع الدفاع عن نفسه”، وعندما توالت المقالات وبهذه الحدة والطريقة أحس الجميع خطورة الموقف فكتبت جريدة المفيد تحت عنوان ” الوطن في خطر… فأين المنقذون؟ “، وفي 3 حزيران قالت : ” إن جسد الوطن على طاولة التشريح في مؤتمر الاستانة (القسطنطينية) فماذا نحن فاعلون؟ “.
لقد حددت بريطانيا يوم 10 حزيران 1924 آخر موعد لتصديق المجلس على المعاهدة، لأنه اليوم الذي ستطرح فيه بريطانيا القضية على عصبة الأمم بعد فشل مؤتمر القسطنطينية، وفي حالة عدم التصديق فإنها هددت بإجراء آخر لغير صالح الوحدة العربية، وراحت بريطانيا توحي للعراقيين إن قضية الموصل أهم من المطالبة بالاستقلال، واتهمت كل من يطالب بالحرية والاستقلال بأنه يعمل لصالح الأتراك وانه يهدف إلى إعطاء الموصل إلى تركيا، وان فشل مؤتمر الاستانة سيؤدي بالعراق إلى التجزئة والمستقبل المظلم لان بريطانيا لن تقف إلى جانبه إذا رفض تصديق المعاهدة.
وهكذا واجهت البلاد تهديدا بريطانيا حقيقيا بتجزئة العراق، فما كان من الملك فيصل الاول إلا إن يستدعي أعضاء المجلس التأسيسي وقال لهم :
“لما قرأت المعاهدة واتفاقياتها شعرت ما شعر به المجلس وشعرت به الأمة، إلا إني لا اخفي عنكم شيئا ولا أريد أن اكتم ما يكنه صدري، أرى إن موقف البلاد في خطر فلا يجب أن نسير وراء العواطف بل يجب أن نحكم العقل… وانتم المسؤولون فانا ارفع عني المسؤولية والقيها عليكم… أنا لا أقول لكم اقبلوا المعاهدة او ارفضوها، إنما أقول اعملوا ما ترونه الأنفع لمصلحة البلاد فان أردتم رفضها فلا تتركوا فيصلا معلقا بين السماء والأرض، بل اوجدوا لنا طريقا غير المعاهدة وانتم ترون إننا في حاجة إلى مال ورجال لنحارب الأتراك ونقاوم الانتداب البريطاني ونقف إزاء الإيرانيين وغيرهم “.
عندما اجتمع المجلس في صباح العاشر من حزيران وبدأت المناقشات، تقدم رئيس الوزراء جعفر العسكري إلى المجلس بطلب تأجيل الجلسة إلى اليوم التالي لأسباب سياسية خارجية استوجبت ذلك، إلا إن المندوب السامي البريطاني انفجر غضبا، واخبر رئيس الوزراء انه سيطلب من الملك فيصل حل المجلس التأسيسي إذا لم يصل المجلس إلى القرار المطلوب في منتصف الليل، فعرض عليه رئيس الوزراء العسكري، وكان معه زعيم المعارضة ياسين الهاشمي، مقترحا وسطا، وذلك بان لا يرفض المجلس المعاهدة ولا يصدقها، فرفض المندوب السامي، تم توجه المندوب السامي إلى الملك وسلمه مذكرة بها تلخيص لقرار الحكومة البريطانية الذي قال إن بريطانيا تشترط لاستمرار تأيدها للعراق إصدار الملك تعديلا لقانون المجلس التأسيسي فورا، يخول الملك حق حل المجلس وان يأمر بحله اعتبارا من الساعة الثانية عشر من ليلة 10 / 11 حزيران، وان يبلغ المجلس بالقرار في الساعة السابعة من صباح يوم 11 حزيران، وان تغلق بناية المجلس وتطوق من قبل الشرطة، وكان هذا يعني وضع الملك فيصل والمجلس التأسيسي أمام خيارين، أما التفريط بالعراق وهم لا يملكون ما يمكنهم من الوقوف بوجه بريطانيا، وإما المصادقة على المعاهدة، وبصعوبة ومجهود كبير تم جمع أعضاء المجلس بما يكفي لاكتمال النصاب القانوني في الساعة العاشرة والنصف من مساء الثلاثاء 10 حزيران 1924، وكان أهم نص في المعاهدة بقدر تعلق الأمر بوحدة العراق الوطنية للوقوف بوجه تهديدات بريطانيا بالتجزئة هي الفقرة الأخيرة من القرار وهو: “وتصبح هذه المعاهدة واتفاقياتها لاغيه لا حكم لها إذا لم تحافظ بريطانيا على حقوق العراق في ولاية الموصل باجمعها”.
إن دراسة دقيقة لظروف هذا القرار تؤكد انه لم يكن أمام الملك فيصل الاول والمجلس التأسيسي غير اتخاذ مثل هذا القرار في ظل ظروف صعبة تحتم السعي لإلغاء الانتداب، ولا شك إن اسلوب التهديد بالتجزئة وتفتيت العراق في الظرف الصعب كان له تأثيره الكبير في إيجاد مخارج للقرار العراقي بحيث يبدو وكأنه تراجع عن المبادئ أمام الضغوط البريطانية، بل هي وسائل للاحتفاظ بوحدة العراق دون التفريط بالهدف الأساسي وهو إلغاء الانتداب البريطاني الممقوت، فكانت الأساليب السياسية والدبلوماسية ضرورة يحتمها واقع العراق آنذاك.
مع كل ذلك كانت هناك صلابة عراقية قوية وصلت إلى لجوء بريطانيا إلى درجة التهديد بتجزئة العراق بعد أن أعيتها جميع السبل، إن تلك الصلابة العراقية بقيت حقيقة واقعة في السياسة العراقية في ظل الظروف الصعبة، وكانت بريطانيا هي الطرف الذي كان يخلق تلك الظروف، رغم إنها كانت منتدبة لمساعدة العراق، وهذا يؤكد إن المنظمة الدولية كانت وما زالت وسيلة للقوى الكبرى لتحقيق غاياتها وأهدافها حتى وان اصطدمت مع المصالح الوطنية للدول الأخرى، وما واقع الحال للمنظمة الدولية، إلا انعكاس للفلسفة والسياسة نفسها التي سارت عليها الدول الكبرى في محاولة الهيمنة على ثروات الشعوب وسيادتها.
إن ما أردنا قوله هنا إن أمريكا اليوم وهي تمرر مخططاتها في ظل هشاشة موقف عملائها تعيد نفس السيناريو البريطاني ولكن بأهداف مختلفة، ولكن الشعب العراقي يأنف الذل والخنوع، وكما أزال الانتداب من على تراب العراق الطاهر، سيزيل الاحتلال الأمريكي وبوجه منكسر اسود و”خفي حنين”، إنشاء الله.