وقع الفأس في الرأس كما يقول المثل الشعبي، وباتت مدينة القدس يهودية بلا مقاومة وبلا أي تصدى لمخططات الإسرائيليين بشأنها … هذا التهويد كان خطوة متوقعة من المراقبون حيث يشرع اليهود منذ زمنٍ في تنفيذ ما خططوا بلا أي حراك أو نخوة إسلامية أو عربية البتة، لا رسمية ولا شعبية، اللهم فقاقيع هواء صغيرة جداً جداً، انفعالية استعمالية ما تلبث أن تزول بسرعة البرق. لقد بتنا – مئات الملايين من المسلمين والعرب - كمن يسترق السمع من خلف الباب لعروسٍ في لحظة فض بكارتها. والآن لنطلق الزغاريد بنيل الشرف العظيم. ورحم الله نزار قباني عندما قال: وتركوا القدس فوق الوحلِ عارية.
التقارير الإسرائيلية قبل غيرها هي المصدر الرئيس في المعلومات الجدية عما يجرى في بيت المقدس .. هل يعقل هذا؟ لكن من المحزن أن الغياب العربي والإسلامي عن القدس كان وما زال غياباً كلياً في جميع المجالات ؟؟ ومع ذلك وحسب ما يُنشر فإنه لم يعد أمام سلطات الاحتلال الإسرائيلي سوى وضع الرتوش ربما الأخيرة والاحتفالية، لتصبح المدينة تماماً مدينة يهودية 100%، ولم يعد أمام العرب والمسلمين كالعادة، سوى الاستسلام للواقع الجديد، وبعدها سيكون مسموحاً لهم من قبل العم سام بالتباكي والنحيب على الأطلال.
إن هذا القول لا يأتي مني في سياق الدعوة للنحيب والبكاء على الأطلال، فالمدينة المقدسة لمن لا يعرف وصلت إلى ما وصلت إليه، بتواطؤ أو على أقل تقدير بسكوت وعدم اكتراث من الدول الإسلامية والعربية المعنية، التي لم تحرك ساكناً منذ احتلال المدينة في العام 1967م. في الوقت الذي بدأت سلطات الاحتلال الاسرائيلى أعمال التهويد منذ الشهور الأولى لاحتلال المدينة والحرم القدسي الشريف. وطوال سنوات الاحتلال من 1967م، وحتى الآن واليهود يعملون ليل نهار وعلى كل المستويات حتى وصلوا إلى ما عليه الحال اليوم.
ويتساءل المرء ببراءة وفطرة سليمة لِما هذا الصمت وكيف وصلت الحال في القدس الى ما هي عليه من تهويد كامل ؟ فأين الفلسطينيون وجهادهم، والعرب ومواقفهم والمسلمين ونخوتهم وغيرتهم على أولى القبلتين؟؟. وللحقيقة والانتصاف فإن الفلسطينيون تنظيمات وشعب – قاصرون وعاجزون تماماً بكل ما تحمل هذا الكلمة من معنى عقائدي وسياسي ومادي ومعنوي. ولكن أين دور باقي من يهمهم الأمر في بلاد العرب والمسلمين القريبة والبعيدة؟؟؟
ومهما يكن من أمر، فإن العرب لو كانوا معنيين بالفعل بمصير المدينة المقدسة، وإنقاذها من براثن التهويد ومن مخالب الصهيونية التي تنبش فيها منذ سنوات، لِما تركوا الفلسطينيون وحدهم يتفاوضون بمفردهم بشأنها، ولكانوا أصروا على أن يكونوا طرف فعّال في أية مفاوضات بشأنها، لكنهم آثروا أن يتركوا الطرف الأضعف المتمثل بالقيادة الفلسطينية، والتناطح مع اليهود والأمريكان في مفاوضات عقيمة، تبحث تقاسم القدس تحت وفوق الحرم … الخ. مما كان من مهازل أدارتها الولايات المتحدة أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي وضع العالم العربي أمام مسئولياته وقتها إزاء هذا الموضوع. وفضل العرب أن يكونوا متفرجين وينتظروا نتائج التناطح المشار إليه وكانت توقعاتهم أن يتم التوقيع على أية حل يحدد مصيرها، أما هم فلا يتحمّلوا تبعات أي مسئولية قد تقع عليهم، ويسهل عليهم التحلل عند اللزوم من أي شيء كان بصدد القدس، وليقولوا فيما بعد لسنا من وقعنا، وأن الذي يحمل الوزر هو الطرف الفلسطيني المتلهف للوصول إلى أي حل لقضيته، حتى ولو كان على حساب التنازل عن أجزاء كبيرة من المدينة المقدسة.
وقد أكد البروفيسور إبراهيم أبو جابر، مدير مركز الدراسات المعاصرة في مدينة أم الفحم في الأراضي المحتلة عام 1948م: إنه يمكن القول الآن أن مدينة القدس قد تهودت فعلاً، مشيراً إلى أن إسرائيل تسابق الزمن لوأد أي احتمال لتحرير الشق الشرقي من القدس وتسليمهللفلسطينيين. وبيّن أبو جابر أن أي زائر للقدس الآن يلاحظ حجم الاستيطان الإسرائيلي وأن الإسرائيليين يستولون على منازل عربية بالقوة وعبر وثائق مزورة، فأصبحوا يحاصرونالأحياء العربية في القدس الشرقية والبلدة القديمة. وأضاف قائلاً إن إسرائيل أحكمت سيطرتها داخل المدينة وفي محيطها؛ إذ تمكنت عبر خط الجدار العازل من إخراج أحياء عربية كبيرة من حدود القدس، مثلأبو ديس، في الوقت الذي يجري فيه العمل على افتتاح خط “مترو القدس” الذي سيربط المدينة بالمستوطنات اليهودية الكبيرة،
وأن هدف المترو هوتنشيط الحركة اليهودية من محيط القدس إلى مركزها.
وأن هدف المترو هوتنشيط الحركة اليهودية من محيط القدس إلى مركزها.
إضافةً إلى ذلك ومنذ سنوات، حذر المقدسيون السلطة الفلسطينية عبر مؤسساتها وغيرها من إهمال حال سكان القدس، وطالبوا بضرورة إيجاد البرامج والمخططات لتصليب وضع المقدسيين على أرضهم ليثبتوا ويتصدوا لمحاولات من ألوان شتى لطمس هويتهم وتهويد الأرض والمقدسات. واشتكى المقدسيون بمؤسساتهم من تجاهلهم وباتوا وحدهم في الميدان. أما اليهود وقد تمكنوا من تمزيق القدس الشرقية وتفتيت أحياؤها، كما تمكنوا من النيل من الشباب الفلسطيني هناك. ومن المفزع أن نعلم أن المقدسيون من اكثر مجتمعات العالم إدماناً وتعاطي للمخدرات, ولقد شعر المقدسيون بفقدان هويتهم منذ سبعينيات القرن الفائت لكن صرخاته
م ذهبت أدراج الرياح.
م ذهبت أدراج الرياح.
الممارسات والإجراءات الإسرائيلية تراكمت في سياق مخطط له بدقة متناهية؛ إذ إنها لم تتم بين ليلةٍ وضحاها، بل استغرقت نحو أربعة عقود من الزمن، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال الادعاء بأن العرب والمسلمين بوغتوا أو أُخذوا على حين غرة، بل كانوا مطلعين على ما يحدث للقدس من تدمير وتهويد، لكنهم أبوا أن يعيروها أدنى اهتمام منذ حرق منبر صلاح الدين، مروراً بتدشين عهد الاستيطان في المدينة وما حولها، ثمَّ بناء الجدار العازل لفصلها عن محيطها العربي بالكامل، وحتى يومنا هذا من بقية الإجراءات.
ومنذ عام ونيف وبالتحديد في 8 شباط (فبراير) 2007م، شرعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في هدم جسر باب المغاربة، وكانت فرصة للعرب والمسلمين للتدخل بقوة لوقف هذه العملية، خاصة من جانب الدول العربية، لكننا لم نرَ أحداً منها يفعل شيء. وهذا في الواقع نوع من القبول بما يتم تنفيذه، بل وصل الأمر بشيخ الأزهر الشريف أكبر مرجع ديني في العالم الإسلامي عندما سألته مذيعة فضائية الجزيرة عمَّا يجب فعله لوقف هذه الأعمال التي تؤدي لتهويد المسجد الأقصى، نجده يقول وباللغة العامية: “هو حصل إيه، هي إيه المشكلة، على الفلسطينيين إنهم يوقفوا قدام الجرافات ويمنعوهم”.
ما هكذا تورد الإبل يا شيخنا الجليل، وما هكذا يجب أن يكون ردك في قضية خطيرة تمس مقدسات المسلمين. هنا نترحم على مشيخة الأزهر في أمجادها الغابرة على مدى قرنين من الزمان، كانت منارة وقيادة للعالم الإسلامي بعيدة عن الأهواء والمؤثرات التي تحيط بهيبتها وتجرها الى المنزلقات التي تورد العلماء المهالك. وفى مناسبة تلك الفتوى نقول لشيخ الأزهر كان يُنتظر منكم باعتباركم أهم مرجع شرعي في العالم الإسلامي، أن تُصدر فتوى شرعية نافذة تؤكد فيها من جديد على عدم التفريط في القدس، بل على ولاة الأمور من حكام وقادة العمل على إنقاذ المسجد الأقصى، وأن التراخي في ذلك ممنوع شرعاً ومحل إثم، وكل من يتراخى أو يتقاعس عن الذب عن القدس آثم لا يجب على المسلمين إتباعه، وأن كل من يقيم علاقات سياسية مع العدو مهما كان حجمها يُعد متواطئاً، وأن على الجيوش الإسلامية قاطبة أن تعمل على تحرير المسجد الأقصى والقدس من براثن الاحتلال.
يا مولانا الجليل أنت لم تفعل شيئاً من هذا ولا قريباً منه وبذلك وضعت نفسك موضع الشبهات، فأنت على ذلك الحال لم تختلف عن باقي الحكام المتخاذلين ولا نريد أن نسترسل في دحض موقفكم، ولا أن نسوق لكم البراهين على مجانبتكم الصواب في موقفكم إزاء الحرم القدسي فربما مأربكم الشخصية تطغى بما لا يسمح لنا بالشرح وذلك حتى لا نُتهم بالتشهير فيكم. لقد كانت موالاتكم للحكام ظاهرة للعيان بما لا يخفى لكل ذي قلب وعقل مؤمن ومسلم، حيث أخذت تبرر لهم تقاعسهم.
على أي حال وحيث أن الملف ساخن جداً، فالنصيحة لكم بأنه لا زال أمامك فرصة لتصحيح موقفك وتعلنها مدوية، فقد تكون لفتواك وبقدر قوتها، تأثيراً فعّالاً وقد تؤدي إلى ثورة عارمة تؤدي إلى بداية التحرير.
صدقني يا مولانا أنت الرجل المهم الذي بيده مفاتيح تحريك الأمتين العربية والإسلامية، ومن ثم القادة والحكام من بعد للتصدي لإسرائيل وإنقاذ القدس الشريف، بما لكم من تأثير روحي على المسلمين. أنت يا مولانا من بيده إعادة اللحمة بين المسلمين وتوحيدهم، انطلاقاً نحو الهدف المشترك لتخليص الأرض المحتلة من براثن الاحتلال. ووقتها سوف يتم إعادة الاعتبار للأزهر الشريف ومكانته العالمية.
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الأزهر – غزة