بقلم: أنور مالك
تيسير علوني هو ذلك الصحفي العالمي الكبير الذي وضع بصماته في تاريخ مهنة المتاعب والمشاق والموت، فليس المجال أن نتحدث عن رصيده الذي يعرف من المحيط إلى الخليج، ولا لبسط قصة حياته ومنعطفات تجربته، إنما أردنا أن نذكر بهذا الرجل الفذ الذي كان الشاهد الوحيد على جرائم أمريكا وحلفائها في أفغانستان، وهو الصوت الإعلامي العربي اليتيم الذي ظل يردد بنبراته وبصوره في كل فضائيات الدنيا، من خلال حرب همجية قادتها الولايات المتحدة على شعب اعزل فقير، وهو ذلك الفارس الذي إمتطى صهوة المغامرة بين فيافي وكهوف ومنحدرات لا يصبر عليها إلا الشجعان، يفتش عن الحقيقة وينشد العدالة وينشر عبر الدنيا صرخات المستضعفين والمحرومين والمضطهدين… تيسير علوني هو إسم كبير لرجل متواضع إلى حد المثالية المطلقة، فلقد حدثته هاتفيا من دون سابق ميعاد، وبقينا في تواصل عبر البريد الإلكتروني، حتى خيل لي أنني أنا من يعيش في إقامة جبرية، فالرجل برغم قامته العظيمة وبرغم المحنة التي لا تزال مخالبها تنهش لحمه، وتعرقل نبض قلبه العليل… بالرغم من كل ذلك إلا أنه يظل يدعونا إلى المثابرة والتضحية والإخلاص، ولا يظهر تأوهاته ولا أوجاعه من الحصار المضرب عليه، لو كان تيسير علوني أمريكيا أو أوروبيا لفتحت المعاهد أبوابها، للتحدث عن مدرسته الإعلامية المتميزة والمتألقة، بل لوضعت له التماثيل في أرقى الأحياء وأكبر الشوارع، تذكر وتشيد بصحفي خالد فتح صدره للهيب الحرب والدمار… فقد حقق سبقا لا مثيل له من قبل، حيث استطاع أن يحاور اسامة بن لادن في ظل حرب شاملة وشرسة، ووصل إليه وفي عقر مخبأه وهو المطلوب الأول عالميا، فترى لو فعلها آخر من صحافة الغرب المتبجحة بالحرية والديمقراطية والرأي الآخر؟ بالتأكيد سيظل نبراسا يحتذى به في كل الصحف والفضائيات، بل ستتسابق دور النشر من أجل الفوز بمذكراته أو حتى توقيع منه على بعض السطور، وستكتب عنه المجلدات وتنجز الأشرطة الوثائقية ترصد كل كبيرة وصغيرة في مسيرته… لكن لما تعلق الأمر بصحفي عربي مسلم يحافظ على دينه وقيمه الحضارية، صحفي يعيش في الغرب وزوجته متحجبة، وأولاده يحافظون على صلواتهم وصيامهم وقيامهم، ويتعبدون لربهم في أناء الليل واطراف النهار، ولم تنحل أخلاقهم في ظل مغريات الحضارة الغربية، كما يجري مع المهاجرين العرب والمسلمين، حتى صرنا نخجل من هذا الإنتماء !!… لما تعلق الأمر برجل نذر نفسه للحق والحقيقة والإنسانية بلا حدود، ولا يسأل لصالح من يكون الحق، بقدر ما يريد ان يدافع عن المظلوم ويضرب على أيدي الظالم، لما كان تيسير علوني من طينة سلف ورثونا قيم الفحولة والكبرياء والتحدي والتفاني… نعم لما كان هذا الصحفي الكبير شاهد أمة في زمن العمالة والإنكسارات والخيبات، شاهد على جرائم لا تطويها الصحف ولا تسقط بالتقادم ولا يزورها اشباه الرجال، لما كان هذا الإستثناء في زمن صحافة هز البطن والدعارة وأخبار البكارات والعلاقات الجنسية، لم يجد هؤلاء من حل سوى زنازين فتحت له، لو نطقت حجارتها لقالت بملء فيها: حرام حرام عليكم فالرجل أكبر من مساحاتي وحرارة إخلاصه تذيب قضباني… لقد وزعوا التهم عليه جزافا من دون أدلة تذكر ولا بينات، وللأسف من طرف غرب دأب في التباهي علينا بالعدل والعدالة وإستقلالية القضاء، بل فبركت أشياء تدعو للسخرية واللطم على وجه هذه العدالة المستباحة، وآسفي أن يتحول كتاب الأربعين النووية إلى القنابل التي دكت هيروشيما، وشوهت الملايين !!…
عندما كتب لي تيسير علوني مهنئا على مولودي الجديد، لم أجد إلا البكاء للتعبير عما إختلج بصدري، وأنا الذي ذقت وشبعت من مراراة السجون، فالرجل بالرغم من مآسيه وبالرغم من الحصار المضرب عليه، وبالرغم من سنوات الظلم التي لا يزال يقضيها في إقامته الجبرية، آثر أن يشاركني فرحتي ويخلد دفتر طفلة جاءت للدنيا في منفى والدها اللاختياري… هكذا هو نموذج الصحفي الانسان، لا تهمه محنه بقدر ما يريد ان يسعد الآخرين، وهكذا هو تيسير علوني سواء كان في أفغانستان يتنقل من مكان إلى مكان حاملا روحه بين كفيه، تطارده القذائف وتترصد لأنفاسه الصواريخ، أو كان في العراق كشاهد آخر على الغطرسة الأمريكية الثانية، وشاءت أقداره أن يكون حاضرا لإستشهاد مراسل الجزيرة طارق ايوب، بعدما نجى من قبل في كابول عندما دمرت صواريخ بوش مكاتب عمله الإعلامي… أو هو في غرناطة تحاصره القيود وتعد عليه أنفاسه.
ما يسعني وأنا أوشم هذه السطور على جلدي قبل أن أكتبها بمداد عصرته من شراييني، سوى أن أذكر الأمة من شرقها لغربها ومن شمالها إلى جنوبها، بصحفي خدم الحقيقة ودفع الثمن حريته، فترى هل تستطيع الأمة أن تتحرر من قيودها وتهديه وسام شرف لتيسير؟ !!
الحقيقة هي تيسير والحق يعشق بصمات علوني، والصحا
فة دونك ثكلاء، والأقلام ترتعش حينما يردد الصدى اسمك… ستبقى في القلوب بعدما رسخت صورتك بالعيون وسجلت بحتك في آذان الناس، وستعود لنا حتما وقامتك أكبر بكثير، فالله قد أعزك بمجد لا يستحقه سواك، ومن أعزه الله لن يذله الطغاة ولا البغاة ولا الزناة…
فة دونك ثكلاء، والأقلام ترتعش حينما يردد الصدى اسمك… ستبقى في القلوب بعدما رسخت صورتك بالعيون وسجلت بحتك في آذان الناس، وستعود لنا حتما وقامتك أكبر بكثير، فالله قد أعزك بمجد لا يستحقه سواك، ومن أعزه الله لن يذله الطغاة ولا البغاة ولا الزناة…
كاتب صحفي جزائري – باريس
—————————————
الموقع الإلكتروني للكاتب