جاءت التفاصيل المنشورة في صحيفة “هآرتس” مؤخراً، حول البضاعة الفاسدة التي عرضها رئيس حكومة العدو، على الرئيس الفلسطيني خلال جولات التفاوض المتتالية منذ أشهر عديدة، لتكشف عن خطة طريق وضع مساراتها طاقم “المهمات الصعبة” في حكومة العدو، انطلاقاً من واقع الضعف السياسي / المجتمعي الفلسطيني، الذي تتوضح ملامحه المباشرة في حالة الإنقسام، وازدواجية الرؤيا – البرنامج لمواجهة الاحتلال ومخططاته، والدعم المطلق الذي تتلقاه حكومة العدو من الإدارة الأمريكية بشكل خاص، وحكومات العديد من الدول الأوربية بشكل عام.
إن قراءة هادئة لمفردات اللغة التي صاغت بنود الرؤية عبر آليات تنفيذها المقترحة، تدلنا على حجم الهيمنة الجديدة التي تتوخاها حكومة أولمرت على الأرض الفلسطينية المحتلة، وعلى شطب أبرز قضايا الصراع : عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها عام 1948، ووضع مدينة القدس . ناهيك عن التضليل المكشوف الذي أحاط بكلمة “إنسحاب” التي اقترنت بعملية تبادل للأراضي، تتم خلالها ترسيم وشرعنة المصادرة في محيط القدس، وأجزاء أخرى من الضفة، مقابل بضعة كيلومترات مربعة من صحراء النقب. خاصة وأن تبادل الأراضي المتعلق بالجانب“الإسرائيلي” سيتم فور التوقيع على الاتفاق، مما يعطي إسرائيل الحرية الكاملة لزيادةالبناء في المستعمرات التي ستبقى وفق الاتفاق. أما الجانب الفلسطيني فلن يأخذ أراضفي النقب إلا بعد سيطرته على غزة، بما يعني صب الزيت على جمر الإنقسام الراهن. هذه المبادلات التي يتم من خلالها إلحاق الأراضي الزراعية والثروات الباطنية، خاصة أحواض المياه الجوفية في الضفة بأراضي كيان العدو. بالإضافة إلى إلزام الجانب الفلسطيني بالدور المنوط لقوات الأمن الفلسطينية، تتحدد مهماتها بحفظ النظام، وضبط التحركات المناوئة للاحتلال. كما لاتغفل هذه الخطة تنفيذ هذه الاجراءات المقترحة بالربط بين القطاع والضفة عبر طريق _تتم مراقبته_ليحقق التواصل بينهما. إن الاستخلاص الوحيد الذي يخرج به أي قارىء لهذه الخطة، يكتشف على الفور، أن المطلوب من الفلسطينيين التخلي عن وطنهم وحلمهم، وتحويل مايتبقى من هذا الوطن إلى قطع مبعثرة تفصل بينها الحواجز والطرق، بحيث تصبح الدولة العتيدة الموعودة، دولة الحواجز والمعابر، أو دولة طرق المواصلات!.
لم تكن هذه الرؤية / الوثيقة، سوى التعبير المباشر عما تدوالته لجان المفاوضات المتعددة، من خلال التصريحات الصحفية لرموزها _ خاصة وفد حكومة العدو _بالفترة الأخيرة. فما بين التسميات المتداولة عن اتفاق “إطار، مبادىء، أدراج، رف” كانت تتوضح حقيقة ماتسعى له وفود حكومة اولمرت. هذه الحكومة التي تعيش الربع الأخير من عمرها الافتراضي، بسبب قرار رئيسها بالاستقالة من رئاسة حزب” كاديما” الذي يقود تالياً إلى خروجه من الحزب والوزارة والسياسة! فسقوط أولمرت لم يكن فقط بسبب الرشى والفساد، بل بسبب نتائج العدوان على لبنان صيف 2006، التي عبر عنها أحد الكتاب الصحفيين في مقال له قبل فترة وجيزة (قتلته الحرب ودفنته التحقيقات). ومن هنا يتساءل المراقبون عن إمكانية تطبيق هذه الرؤية، خاصة وأن إجراء الانتخابات الداخلية لانتخاب زعيم جديد لحزب “كاديما” في موعد لا يتجاوز الثامن عشر من شهر أيلول/سبتمبر القادم، سيضع على قمة الحزب أقوى المرشحين لملء هذا الموقع، وهما تسيبي ليفني أوشاؤول موفاز. وعلى الفائز منهما أن يبدأ المشارورات لتشكيل حكومة بديلة خلال 82 يوماً من تاريخ استقالة أولمرت، فإن لم يتمكن من ذلك، يمنح 14 يوماً إضافية للغاية نفسها، وإلا فإن حل الكنيست والدعوة لانتخابات مبكرة خلال 90 يوماً يصبح واقعاً قائما. أما على الجانب الآخر، فإن المأزق الداخلي الفلسطيني، والاستحقاقات القادمة المترتبة على انتهاء المدة القانونية للرئيس عباس، والمتزامنة مع التحضيرات الوداعية لإدارة بوش، المترافقة مع الشروع بدخول الانتخابات الرئاسية الأمريكية، الذي يعني في الحراك السياسي الأمريكي تراجع الاهتمام بالملفات الخارجية، من أجل التفرغ الكامل للأجندة الإنتخابية الداخلية التي استقطبت الناخب الأمريكي.
إن مالفت نظر المراقبين، كان سرعة الرد الرسمية الفلسطينية على رؤية أولمرت. نبيل أبو ردينة الناطق الرسمي للرئاسة أشار إلى (العرض “الإسرائيلي” غير مقبول لأنه يتنافى مع الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية).مؤكداً على أن(الجانب الفلسطيني لن يقبل إلا بدولة فلسطينية متصلة جغرافيا، تكونعاصمتها القدس الشريفة، وخالية من المستوطنات، وعلى حدود الرابع من حزيران عام 1967). وهو ماذهب إليه ايضاً صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات حين قال (أن جميع المعلومات التي وردت في الوثيقة المنشورة ليس لها أساس من الصحة كما أنها لا تمت إلى الحقيقة بصلة). مشدداً على (الحاجة الملحة للوصول إلى حل شامل وإنشاء دولة فلسطينية تقوم على حدودعام 1967 وعاصمتها مدينة القدس الشريف). وفي ذات الاتجاه، الرافض للرؤية، والمندد بشدة بمواقف حكومة العدو، كانت مواقف
القوى والفصائل الفلسطينية الأخرى.
القوى والفصائل الفلسطينية الأخرى.
إن تجربة الشعب الفلسطيني المؤلمة مع ماراثون التفاوض المضني، المعلن تارة، والبعيد عن الأضواء تارة اخرى، أثبتت منذ أوسلو وللآن، أن حكومات العدو المتعاقبة ترى الفلسطيني هدفاً للقتل أو للاعتقال أو وكيلاً لتنفيذ خطة الاحتلال، وتنظر للأرض الفلسطينية كمساحات مشاع يحق لها تملكها الكامل . كما أن لدى المواطن الفلسطيني العادي، دراية وخبرة بالمتاهات التي يؤخذ إليها المفاوض الفلسطيني _ بوعي أو بدون وعي _! كما جسده واقع اتفاق أوسلو على الأرض.
فإلى متى سيبقى بعض الفلسطينيين يراهنون على السراب ؟