بقلم خالد حسن
بعض المعارضين الجزائريين في الخارج، على اختلاف توجهاتهم، لا يقدم تصورا لمعالجة الملف الأمني، بتعقيداته وتداخلاته وغموضه، ولا يتقن إلا فن اتهام السلطة والعسكر، في نزعة انتقامية مكشوفة.
لا نبرئ أحدا، ولا أحد يتحمل وحده المسؤولية، فالكل شركاء في صناعة المشهد الجزائري الدموي الحالي، وإن بأقدار متفاوتة، لكن هناك جانب ظل مغيبا في قراءة تطورات الوضع الأمني في الجزائر، وهو وجود رغبة وإرادة مبيتة للعبث بهوية البلد وقطع المدد والتواصل المعرفي عنه، وأُريد له أن يرتبط بالحوض المتوسطي في شبه عزلة تامة عن عالم المشرق خاصة، وهذا ما يفسر إلى حد كبير احتكار السلطة للمعالجة والحل، والأدهى أن التعامل مع هذا الملف لم يتجاوز شقه الأمني، وحتى الاجتماعي، رغم اعتراف السلطات بخطورته، فإنه لم يلق اهتماما وعناية.
لماذا لم تتوجه السلطة ـ اليوم ـ نحو تبني خيار المعالجة العلمية والفكرية، رغم أن التجارب الدموية المريرة أثبتت نجاعة هذا الخيار، عندما اعتمدت فيه الجهات الأمنية على وجوه علمية محلية بارزة (أبو حفص مثلا)، كانت متعاطفة مع العنف ثم عدلت عنه، بل وساهمت في إقناع عناصر من جماعات العنف بوضع سلاحها، والقبول بفكرة المصالحة الوطنية، ومنهم بعض الأمراء (وأبرزهم حسان حطاب). وهناك دول (السعودية، اليمن ومصر) حققت نتائج مشهودة باعتمادها هذا الخيار.
هل لأن بعض المتنفذين يرفضون فكرة التواصل مع علماء المشرق، خاصة وأن أبرز من يفترض أن يؤثر في شباب العنف المسلح المغرر به (على الأقل في بعضهم)، هم من التوجهات السلفية؟ لماذا خاض بعض المتنفذين معركة وهمية مع علماء محسوبين على التوجه السلفي (من مصر والسعودية)، عبر وزارة الشؤون الدينية، برفض دعوتهم إلى الجزائر للمساهمة في المعالجة العلمية والفكرية، رغم أن بعضهم أبدى استعداده للمجيء، وقطع المتنفذون الطريق على كل محاولة للاستعانة بدعاة وعلماء من المشرق لإقناع المغرر بهم من الشباب الذي التحق بجماعات العنف والإجرام؟ من المستفيد من هذا التعنت والعناد والمكابرة؟
لماذا نخوض معاركة وهمية، ونستنزف مقدرات البلد، ونزج به في متاهات توجهات مشبوهة ونقطعه عن امتدادها الحضاري؟ هل نفهم من هذا أن ثمة إرادة مبيتة ـ لدى بعض المتنفذين ـ لتأجيل ملف حسم الوضع الأمني؟
كما لا يمكن لما تُسمى بـ”الأحزاب الإسلامية” أن تنأى بنفسها عن هذه الفوضى، إذ تتحمل قدرا من المسؤولية لانصرافها عن خطها الدعوي والفكري الأول، وغرقها في أوحال الاستحقاقات الحزبية والانتخابية، بما يناقض مقصد السياسية الشرعية ومدلولها، وعمقت ـ بهذا ـ الهوة بينها وبين الهموم الحقيقية للأمة والبلد، فتحولت إلى محلات ودكاكين تقتات على بضائع كاسدة، وفقد لإسلاميون خارج الأحزاب والحركات القدرة على التأثير، وأُُفرغت الساحة من المؤثرين والموجهين والمشاريع والأفكار الحية البناءة، ليقع الشباب المتحمس والمتهور فريسة عصابات الإجرام والنسف والتفجير؟
وأما العنف الذي تمارسه جماعات إجرامية في الجزائر، سواء ارتبط بالقاعدة أو بغيرها، فتحول إلى آلة ضخمة لإنتاج الرغبات والقابليات المدمرة، فالرغبة في التسلط تنشئ السلطة نفسها، ولو كانت على شاكلة جماعات العنف، والسلطة هذه تأكل أبناءها.
اصطدم العنف الأعمى في الجزائر بحصار أقوى، فأصبح همه أن يفك الطوق ويحدث اختراقا في جدار العزلة، بعدما تحولت النزعة العدوانية وإرادة الانتقام إلى أداة لإنتاج الدمار وتسويقه.
وجماعات العنف في الجزائر، أيا كانت هويتها، تعيش وهما قاتلا، تتصور أن المجتمع والدولة والبلد عموما، يمكن إخضاعه بالدمار والتفجير، وهذا رهان خاسر وفاشل، حالا ومآلا.