بعد صبر وأمل، نشرت الدولة العبرية قوائم السجناء المفرج عنهم إكراماً للرئيس الفلسطيني، تلقفتها كغيري بلهفة وفرح، ودققت في التاريخ الذي كان سيفرج فيه عن كل سجين، فأدركت أنها قوائم القهر الإسرائيلية، والوهن الفلسطيني، ونحن نرقب أحد عشر ألف كوكباً خلف الأسوار، والشمس والقمر لحكومتين فلسطينيتين في رام الله وغزة، الأولى تلقت بالقوائم المعلنة صفعة التجادل، والثانية تنتظر صفقة التبادل. لم تكن المهانة في قلة العدد 199 سجيناً المفرج عنهم، وإنما في سنوات الحكم المتبقية لمن سيفرج عنه، لقد ضمت القوائم:1- عدد 92 سجيناً فلسطينياً تبقى لهم أشهر معدودات، ويغادرون السجن دون مِنَّةٍ2- عدد 28 سجيناً فلسطينياً تبقى لحكمهم مدة عام، وسيخرجون بلا كتابة تعهد على نفسه.وأكرر هنا ما قلته في مقال [ بنك الأسرى لحساب حماس، أم عباس؟] بأن الحاكم العسكري الإسرائيلي لقطاع غزة كان يفرج بمناسبة شهر رمضان عن مئات السجناء دون حاجة للقاء، وكان يفرج عن مئات الأسرى ممن تبقى لهم سنة وسنتين، وحتى خمسة سنوات لمجرد لقاء مع مختار عشيرة، أو وجهاء منطقة، أو مع رئيس بلدية صغيرة، كان ذلك قبل التوقيع على اتفاقية أوسلو.لقد انتظر السجناء، واستبشروا بأمل اللقاء الذي تم في القدس بين أبي مازن وأولمرت، ومن لم يجرب قسوة السجن لا يدرك لهفة الانتظار خلف الأسوار، ووجع الترقب على أمل، وما يعتري الحالة النفسية التي يعيشها السجناء وذووهم، وهم يسمعون، ويتابعون التطورات عن اللقاء الذي تم بين أكبر رأس فلسطيني، وأكبر رأس إسرائيلي بهدف تحرير عدد منهم تكريماً للخط المعتدل الذي لا يرى غير التفاوض سبيلاً، وفي محاولة لقطع الطريق على الخط المتشدد الذي لا يرى إلا المقاومة المسلحة سبيلاً، لقد صام الأسرى، وانتظروا طويلاً، وأفطروا على بصلة القائمة التي تمثل أقل من 2% من ألوفهم المؤلفة خلف الأسوار.لقد ضمت القائمة البائسة سجينين فقط من أصل 450 سجيناً حكم عليهم مدى الحياة، وهما مربط الفرس في القائمة، ولهما كل المحبة والاحترام، الأول هو سعيد العتبة، صلب، وواثق، ومقتنع بما قام من واجب تجاه الوطن، وقد أمضى في السجون أكثر من ثلاثين عاماً، لم يبق من عمره شيئاً ليأخذه السجن، فقد أكلت الجدران زهوة شبابه، وتكسر الصبر أمام ناظريه، والثاني أبو علي يطا، شهم، وعنيد، وطيب إلى أبعد مدى، وقد أمضى أكثر من ثمانية وعشرين عاماً خلف القضبان، فقد خلالها بصره ، وانطفأ على الجدران بريق عينيه.فإذا كانت هذه القوائم التي لا تمثل شيئاً من عدد الأسرى نتاج لقاء أكبر رأسين في مدينة القدس، فما هي التضحية المطلوبة فلسطينياً، وأي مستوى قيادي قادر من خلال التفاوض على تحرير جميع الأسرى من السجون الإسرائيلية؟وإذا كانت هذه القائمة التي تمثل أقل من 2% من عدد الأسرى تجابه باعتراض الوزير الإسرائيلي شاؤول موفاز، ووزراء حركة شاس الدينية، وأجهزة المخابرات الإسرائيلية، والقضاء، وتحتاج كل هذا التسويق، والإقناع في أوساط اليهود، فماذا سيحدث في إسرائيل لو كان الحديث يدور عن تبيض السجون؟وإذا كانت هذه القائمة التي تمثل أقل 2% من عدد الأسرى استوجبت كل هذا الإعلام، والزمن، وتوفير السبب، والمبرر، والضرورة، والنقاش داخل الأوساط الإسرائيلية، فأي قوة تفاوض يحتاج إليها الفلسطينيون لتحرير الأرض المحتلة سنة 1967، وقيام الدولة؟ إن قائمة السجناء المفرج عنهم لتقدم الجواب لكل حالم بالحل عبر التفاوض، وتكشف حقيقة العقلية اليهودية المجادلة، والتي تتصرف بمنطق الربح والخسارة، وهي تضن بالحسنى، ولا تفرط بشيء وقعت يدها عليه عن طريق الحوار، والكلام المعسول، فقد اعتقلت إسرائيل الشهر الماضي 313 فلسطينياً، ليفرج اليوم عن 199، والنتيجة ربحت إسرائيل في سجونها 114 فلسطينياً.إن المدقق في قائمة المفرج عنهم يستشرف مستقبل المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي ستسفر بعد زمن طويل ـ لمن يعيش ـ عن مجرد السيطرة الفلسطينية الفعلية على شارع واحد في مدينة رام الله، وعلى بعض المحلات التجارية في مدينة نابلس، وعلى حارة منسية في ضواحي الخليل، مع التزام السلطة الفلسطينية بقائمة شروط تحفظ الأمن الإسرائيلي، مع التسليم بسيطرة اليهود على باقي الأرض الفلسطينية.
لقد أمسى المجتمع الفلسطيني يائساً من المفاوضات، وبات بعقله، والتجربة مقدراً لنتائجها، ولهذا يشارك السجناء المفرج عنه الفرح، وهو أضعف الإيمان، ويهنئهم بسلامة العودة إلى الحياة، ولكن الوجدان الفلسطيني يتحسس الفرق بين فرح المفرج عنه من السجون الإسرائيلية تكرماً، ومِنَّةً، وبين زفاف المحرر من السجون الإسرائيلية غصباً، وعِنْوةً.