ما أن وصل نبا اعتقال ولدي البكر ساري من على حاجز زعترة الاحتلالي، إلا وعشرات الاتصالات الهاتفية تنهمر على منزلي للسؤال والاستفسار عن الأمر.. وعلى الفور تحول منزلي إلى مزار للأهل والأصدقاء للتعاطف والتضامن معنا، حيث حاول الجميع تبديد قلقنا والتخفيف من وقع الحدث علينا، من خلال سرد عشرات القصص عن حالات مشابهة تعرض فيها الشبان للاعتقال من بيوتهم ومن أماكن عملهم ومن على الحواجز.. وكان كل المتحدثين يحاولون إسقاط ما يتمنون علينا بالقول لنا انه ربما يتم إطلاق سراح ساري بعد يوم أو يومين على ابعد حد.
صدق المشاعر كان جليا.. وبوضوح تام كان التعاطف الحقيقي يظهر على وجوه وتصرفات كل من هاتفنا أو زارنا ببيتنا أو قابلنا في طرق وأزقة المخيم، ولم يشذ عن ذلك احد من السكان من كل العائلات ومن كل الاتجاهات السياسية والفئات العمرية.
توقفت طويلا أمام هذا السيل المتدفق من التعاطف، الذي أبداه أهل مخيمي تجاه قضية اعتقال ولدي، وحاولت أن أفسر التناقض الكبير بين مشاعر المودة والتالف والتعاضد التي أبداها الناس، وما بين أجواء الصراع والتناحر والتنافر التي رسختها حالة الانقسام السياسي في بلادنا– والتي وللأسف الشديد تعمل بقوة على تعزيز عملية استبدال التلاحم الشعبي والوحدة الشعبية والتضامن الاجتماعي بالحقد والكراهية والبغضاء.. وعندها أدركت جيدا أن الجوهر الطيب والمعدن الأصيل للجماهير مازالا موجودان، وان الناس في مخيمنا– كما هم في عموم قرانا وفي أحياء مدننا– يعتبرون أنفسهم أسرة واحدة متماسكة، يتألمون لآلام بعضهم، ويتسابقون لنجدة ضعيفهم والوقوف إلى جانبه إذا ما وقع بمصيبة أو تعرض لازمة..
لم تتزعزع ثقتي بشعبي في أي يوم من الأيام، ولكن هذه الثقة تعززت اليوم أكثر فأكثر وتعمقت لدي القناعة بأننا لم نفقد الحب في داخلنا كفلسطينيين تجاه بعضنا البعض رغم كل ما حصل وما تقطع من خيوط كانت توصلنا، وان قلوبنا مهما قست وتحجرت سرعان ما ستعود الى طبيعتها والى ما فطرت عليه، فالحزن دوما كان يوحدنا، والخطر كان يقربنا، بينما عملت السياسة على تفريقنا وتقسيمنا إلى معسكرات متناحرة..
اسأل نفسي باستمرار– هل البسطاء من أهل بلدي مختلفون حقا..؟؟ وإذا كانوا مختلفين فعلى ماذا يختلفون..؟؟ لكنني وأمام كل الشواهد التي المسها واراها من خلال تعايشي مع الناس في الأحياء الشعبية أجد نفسي مقتنعا جدا بان لا خلاف حقيقي بين الطبقات الدنيا من الناس.. ودليل ذلك وقوف هؤلاء إلى جانب بعضهم البعض وقت الشدائد وتراحمهم وتكافلهم حين وقوع المصائب، وتؤكد تصرفاتهم تجاه بعضهم أن لا خلافات عميقة بينهم– لا في المصالح الوطنية ولا في القضايا المعيشية– فهم جميعا يئنون تحت وطأة الاحتلال وممارساته، ويتعرضون يوميا لجرائمه، إضافة إلى أنهم غارقون في أزمات البطالة والفقر والغلاء، والاهم من ذلك كله تنامي شعورهم بأنهم مهملين مهمشين من قبل ساستهم وطبقة المسئولين في بلادهم.. الذين يختلفون فيما بينهم على مصالح ليست أكثر من مصالح أنانية ذاتية يقومون بإلباسها عباءات الوطنية والفصائلية وينزلون بها إلى الجماهير ليخلقوا اصطفافات تخدمهم في معاركهم.
مخيم الفارعة – 18/8/2008