قُبيل اتفاقيات أوسلو كان يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي ما يقارب الخمسة آلاف سجين فلسطيني من شتى الأحكام وأنواعها، تُرك هؤلاء الأسرى ورقة ضغط في يد الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وسلطته بدلاً من أن يكون إطلاق سراحهم المقدمة لأية مفاوضات أو اتفاقيات مع الاحتلال الإسرائيلي، واليوم بعد ما يقارب الخمسة عشر عاماً على ما اصطلح تسميته اتفاقيات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية تجاوز عدد الأسرى في سجون الاحتلال الإحدى عشر ألف أسير فلسطيني منهم من بينهم ثلاثمائة وأربعون طفلاً وحوالي المائة وعشرون امرأة فلسطينية.
ورغم سنوات المفاوضات الطوال ومئات إن لم يكن آلاف اللقاءات التفاوضية وغير التفاوضية مع الاحتلال لم تنجح السلطة الوطنية بإطلاق سراح هؤلاء الأسرى، ولا حتى أولئك الذين اعتقلوا وحوكموا قبل توقيع اتفاقيات أوسلو، وعمليات الإفراج التي استطاعت السلطة تحقيقها كانت لمئات الأسرى من ذوي الأحكام المنخفضة وجزء منهم كان من الجنائيين وذوي السوابق المدنية، وكان هؤلاء يطلق سراحهم كبوادر “حسن نية” من الاحتلال تجاه السلطة الوطنية الفلسطينية دون أن يكون للسلطة الوطنية أي دور في تحديد الشخوص أو حتى المعايير التي على أساسها يطلق سراح هؤلاء الأسرى.
وجاءت عملية الإفراج عن مائة وتسعةٌ وتسعون أسير فلسطيني (بعد استثناء سجين من قطاع غزة) والتي ستتم خلال الأسبوعيين القادمين بناء على طلب من الرئيس الفلسطيني محمود عباس لتثير قضية الأسرى والمعايير للإفراج عنهم من جديد وتشعل جدل قوي في الساحة السياسية الإسرائيلية أكثر من الجدل على ساحتنا الفلسطينية كون الطرف الفلسطيني لا دور له في نقاش المعايير، والمسألة الإيجابية الأولى التي حققتها السلطة الوطنية في هذه العملية وقد تتجاوز أهمية عملية إطلاق سراح الأسرى نفسها هي موافقة دولة الاحتلال على إطلاق سراح أسرى ممن نفذوا عمليات فدائية قتل فيها إسرائيليين، والمقصود هنا بالتحديد عميد الأسرى الفلسطينيين سعيد العتبة الذي قتل إسرائيلية بعد زرعه ثلاث عبوات ناسفة في بيتح تكفا، والأسير أبو على يطا الذي نفذ عملية قتل فيها جندي إسرائيلي في مدينة الخليل، ومن ثم قتلة لأحد العملاء داخل السجن.
ورغم إقرار حكومة الاحتلال لعملية إطلاق سراح الأسرى بأغلبية ستة عشر وزيراً ومعارضة أربعة وزراء من بينهم “أفي ديختر” وزير الداخلية في حكومة الاحتلال و”شاؤول موفاز” وزير النقل والمواصلات، وتبعهم عدد من الشخصيات الأمنية الأخرى في الرفض منهم “داني يتوم” والذي خدم عشرات السنين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، والمعارضة تعود بالدرجة الأولى لوجود بين المفرج عنهم أسرى قتلوا إسرائيليين.
وقراءة متأنية لتصريحات المعارضين لعملية إطلاق سراح العتبة وأبو علي يطا تكشف أن لا حل حقيقي لقضية الأسرى الفلسطينيين ولإنهاء ألمهم وألم عائلاتهم وذويهم غير أسر المزيد من الجنود الإسرائيليين، فأفي ديختر قال “أرفض إطلاق أسرى فلسطينيين أيديهم غارقة بالدماء”، مما يعزز القناعة بأحقية وعدل ما قامت به فصائل المقاومة الثلاث في قطاع غزة بأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط رغم الهجوم الإعلامي الشرس الذي تعرضت له هذه الفصائل من أطراف فلسطينية وعربية على عملية الأسر هذه، وهذا الموقف للوزراء الإسرائيليين بمثابة دعوة صريحة لها للتمسك والتشدد في مطالبها لإطلاق أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين ذوي الأحكام العالية لكسر القاعدة والمعايير الإسرائيلية في هذا المجال كما فعل حزب الله والجبهة الشعبية- القيادة العامة من قبله، وللعمل على خطف المزيد من جنود الاحتلال لتحرير مزيد من الأسرى في ظل احتلال لا يفهم إلا مثل هذه اللغة، وما يؤكد صدقية هذا الموقف أن آفي ديختر المعارض لخطوة أولمرت بإطلاق سراح هؤلاء المعتقلين كان أول من أيد صفقة التبادل مع حزب الله وإطلاق سراح عميد الأسرى العرب سمير القنطار ورفاقه “تحت شعار “لم يكن لدينا خيار آخر”، وطالب بعدم إطلاق سراحهم لاستغلال كأوراق ضغط إضافية في عملية التبادل المتوقعة لإطلاق سراح شاليط وكأنهم آخر الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي ، وموقف “داني يتوم” لم يكن بعيد عن موقف “ديختر” ، وقال “يتوم”لو كان إطلاق سراح هؤلاء المعتقلين ضمن صفة تحرير جلعاد شاليط لوافقت”.
وبعض الجهات الأمنية الإسرائيلية التي شاركت الحكومة في جلستها لنقاش تفاصيل عملية إطلاق سراح الأسرى المتوقعة خلال أسبوعين كانت لها وجهة نظر داعمة لهذه العملية ولكن بمبررات ومسوغات مختلفة، حيث اعتبرت هذه الجهات الأمنية أن عملية إطلاق أسرى من حركة فتح بالتحديد ستشكل ورقة ضغط حسب اعتقادها على حركة حماس وهي ترى أسرى فتح يعودون لأسرهم على أبواب شهر رمضان للتعجيل بإنهاء ملف جلعاد شاليط مما قد يدفعها لتخفيض سقف مطالبها من وراء عملية إطلاق سراح جلعاد شاليط، مما يؤكد سعي دولة الاحتلال للاستفادة بأقصى درجة ممكنة من حالة الانقسام التي تعيشها الساحة الفلسطينية وفي موضوع بهذه الدرجة من الأهمية لكل فلسطيني.
وهناك من حاول استغلال هذه العملية سياسياً داخل دولة الاحتلال وخاصة في المنافسة الدائرة داخل حزب “كديما” لوراثة أولمرت في قيادة هذا الحزب، شاؤول موفاز أحد أربعة متنافسين عل
ى رئاسة “كديما” قال ” لو كنت أنا رئيس الحكومة لما وافقت على إطلاق سراح هؤلاء الأسرى، ويقصد العتبة وأبو على يطا محاولاً كسب المزيد من النقاط أمام منافسيه عبر رفضه لعملية إطلاق سراح الأسرى.
ى رئاسة “كديما” قال ” لو كنت أنا رئيس الحكومة لما وافقت على إطلاق سراح هؤلاء الأسرى، ويقصد العتبة وأبو على يطا محاولاً كسب المزيد من النقاط أمام منافسيه عبر رفضه لعملية إطلاق سراح الأسرى.
وتداعيات عملية إطلاق سراح الأسرى القادمة وردات فعلها لم تقتصر على المستويين الأمني والسياسي في دولة الاحتلال بدل تعدتها للساحة الإعلامية ولكتاب المقالات وأعمدة الرأي فالكاتب “يحزقل درور ” كتب في صحيفة معاريف مقالة تحت عنوان “عصا أكبر، وجزره أصغر”، حيث اعتبر الكاتب عمليات إطلاق سراح فدائيين فلسطينيين قتلوا إسرائيليين مؤشر ضعف لدولة الاحتلال، وطالب بأن تكون نتائج عملية خطف الجنود الإسرائيليين وسيلة أخرى تثبت من خلالها دولة الاحتلال قدرتها على الصبر والصمود، وعبر عن ذلك بكلماته قائلاً “مع كل الألم الذي في الأمر، يجب استغلال الاختطاف أيضا كفرصة لاثبات قدرة وصمود إسرائيل وتصميمها على المعاقبة على الاختطاف بشكل “غير متوازن”. وهكذا يزداد الردع، تتحطم إرادة العدو في اختطاف إسرائيليين ويعاد المخطوفين إلى إسرائيل دون مقابل يشجع على تزايد الاختطاف في المستقبل”.
بالتالي في ظل غياب أوراق ضغط في يد السلطة الوطنية الفلسطينية على دولة الاحتلال، وتعامل الاحتلال مع قضية الأسرى كبوادر “حسن نية” لن يتم إنهاء هذا الملف وسيبقى عالقاً كغيره من الملفات كالقدس والاستيطان واللاجئين وغيرها من الملفات التي أجلت للمرحلة النهائية والتي من الواضح إنها لن تأتي ولن تكون في السنوات القليلة القادمة وفق كل المؤشرات والمعطيات على الأرض، مما يجعل الحل الوحيد والأوحد هو أسر المزيد من الجنود الإسرائيليين مهما كان الثمن لإطلاق سراح أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين في ظل رفض دولة الاحتلال معالجة الأمر بالتفاوض مع السلطة الوطنية الفلسطينية وتقسيما الأسرى وفق تصنيفات مختلفة ووفق رؤيتها ومعاييرها الخاصة.
وهذه المواقف الإسرائيلية المتعنتة والرافضة لإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين هي التي تدفع بفصائل العمل الوطني للتفكير بعمليات أسر لجنود إسرائيليين لكي ينال أسرانا حريتهم، ولتجاوز وإنهاء هذا الملف يفترض دعم وتبني طرح نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عبد الرحيم ملوح والذي صرح في معرض حديث له عن عملية إطلاق سراح الأسرى القادمة قائلاً ”يشترط إطلاق سراح كافة الأسرى كشرط ومقدمة لأية عملية تفاوض، لا أن يكون هؤلاء الأسرى موضوع للتفاوض”.
فلسطين 19/08/2008