تبدو السياسة وإرهاصاتها مصرة على الإطلال برأسها بين فترة وأخرى من كواليس هوليوود، التي تتصدى أحيانا للإدلاء برأيها في بعض المسائل السياسية الشائكة.
في الماضي شكلت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي مادة دسمة لهوليوود، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي جهدت في البحث عن عدو محتمل أو مفترض، فكان أن استدعت خيالاتها المريضة في اقتراح مصطلح “الإرهاب الإسلامي”، قبل أن يصبح مصطلحا أصيلا في مداخلات الساسة الأميركيين.
هوليوود لا تتوقف عن “الإبداع السياسي”، فهي تحاول بين فترة وأخرى أن تعرج على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فعلى مدار سنوات ذلك الصراع تطرقت له من خلال أفلام عدة لعل آخرها فيلم “ميونيخ” و”لا تعبث مع زوهان”.
ولكن تعامل مدينة السينما العالمية مع هذا الصراع لم يتشابه أبدا مع تناولها لقضية الحكم العنصري في جنوب أفريقيا، والتمييز اللاإنساني الذي كان واقعا على السود، والذي استطاعت هوليوود أن تنقله إلى الناس كما هو.
الفيلمان الأخيران لم يحظيا بتغطية عربية وافية بسبب عدم عرضهما في دور السينما العربية، فيما معظم الصالات العالمية حصدت مشاهدة لافتة لهما، إلى جانب أن قسماً كبيراً من الجمهور العربي الذي تمكن من رؤيتهما على أقراص مدمجة أو في الخارج كان وقع في مطب “حسن النوايا”، فاعتبر الفيلمين اعترافاً إسرائيلياً بفداحة “دوامة العنف” الدائرة في الأراضي المحتلة.
وإن كانت الفرصة قد سنحت بمشاهدة “ميونيخ” قبل بضع سنوات، فإن “لا تعبث مع زوهان” لم يملك تلك الفرصة لحداثة إنتاجه بما لم يترك متسعاً كافياً لتسرّبه للجماهير المعنية.
إلا أن مقالات غربية عدة كانت قد تحدثت عنه ملياً، من منظور غربي بحت، معتبرة أنه يفند الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أرض المعركة، وبأنه يسعى لإيصال الطرفين إلى قناعة مفادها أن السلام والتعايش في دولة ثنائية القومية هو الحل اليتيم المتبقي لشعبين لم تفلح السنوات الستون في استيعابهما معاً على أرض واحدة.
لكنه ربما يجدر بالعرب تذكر نقاط عدة قبل مشاهدة “لا تعبث مع زوهان”، كي لا تتكرر الثغرات ذاتها التي حدثت مع فيلم “ميونيخ”، فهوليوود تصور أن هذا العنف الإسرائيلي ليس إلا رد فعل على عنف فلسطيني مماثل، من غير التطرق بدقة وحيادية لقصة الصراع من بدايته، إذ لم يتطرق “ميونيخ” إطلاقا إلى مشهد ولو واحد عن النكبة وكيف انقضّت عصابات “الهاغاناه” و”شتيرن” وغيرهما على فلاحين بسطاء أعملت فيهم القتل والتعذيب والتهجير من غير وجه حق، وما تلا ذلك من نزوح وحصار وتدمير البنية التحتية وغير ذلك من الخسائر.
لذا، فالقصة مبتورة في هذه الأفلام التي تصور الفلسطيني على أنه لا يملك هموماً فكرية ولا حياتية إلا إيقاع الأذى في المجندين والمدنيين الإسرائيليين، ولعل مشهد العملية الفدائية التي أوقعها الفلسطينيون في الفريق الإسرائيلي في أولمبياد ميونيخ العام 1972 دليل واضح على ذلك، فقد صورهم الفيلم بجماعة مارقة تتسلل من غير أي ذريعة قانونية أو إنسانية لتتهجم على الفريق الإسرائيلي، مع عرض مشاهد للفلسطينيين في الأراضي المحتلة بينما هم غارقون في فقرهم وتشتتهم وفوضويتهم التي أفرزت “تنظيمات إرهابية” كما يزعمون، مقابل تصوير المجتمع الإسرائيلي بالمدني المتحضر والذي إن أراد الرد على العنف الفلسطيني فذلك يكون تحت مظلة رسمية عسكرية من غير التطرق إطلاقا لسبب هذه الهوة بين المجتمعين والتي صورت بطريقة كاريكاتيرية.
كذلك الحال مع فيلم “لا تعبث مع زوهان” الذي تناقلت وكالات الأنباء أحداثا كثيرة له، لعل منها المجند الإسرائيلي زوهان الذي يحلم بالخلاص من دائرة العنف التي يريد والده الجندي السابق زجه بها، فيما يقف على الطرف المقابل الفدائي الفلسطيني الملقّب بـ”الشبح” والذي يهرع هو الآخر إلى أميركا هرباً من التقتيل، فيتعايشان هناك بل ويحمي كل منهما الآخر، خصوصاً بعد أن يقع زوهان في غرام أخت “الشبح”!
هذا الطرح المبسّط أمام العالم لقضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من شأنه أن يثير نقاطاً عدة للنقاش، إحداها أنه ما من مناص من الاعتراف باحتكار الإسرائيليين للصورة التي يودّون هم وحدهم نقلها للعالم، على صعيد نشرات الأخبار والأفلام والمسلسلات، بل وحتى البرامج اليومية التي تلاقي إقبالاً جماهيرياً عربياً من غير أن تميز الخبيث من الطيب، كذلك لا بد من التسليم بحقيقة يعترف بها منظّرو السينما برمتهم وعلى رأسهم جاك شاهين وهي إمساك الإسرائيليين بعنق هوليوود وتلقينها الصورة المطلوب نشرها عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي لطالما كانت صورة ظالمة لا يختلف على مجانبتها للحقيقة والحياد اثنان.
وأمام هذه الحقائق لا بد من التعريج على مشاهدات عدة حصلت مع فيلم “ميونيخ” السابق، ومنها امتلاء دار السينما التي عرضته في إحدى الدول العربية بالأجانب فيما المشاهدون العرب اختاروا الانسحاب من أول عروض الفيلم في غضون أقل من عشر دقائق على بدئه.
أمر آخر تمثل في قصور المعرفة الجماهيرية العربية من الأساس بحادثة مثل “ميونيخ” التي قلما يوجد إسرائيلي لا يعرفها، خصوصاً أولئك الذين عايشوا مرحلتها، تمثل ذلك في عدم معرفة كثيرين
بأسماء منفذي العملية الذين خاضوها وخططوا لها أمثال علي حسن سلامة ووائل زعيتر وكمال عدوان وكمال ناصر وغيرهم، بل إن كثيراً من هؤلاء المشاهدين العرب ذهبوا إلى لوم الطرف الفلسطيني على بدء دوامة العنف في الحادثة إياها، وهم بذلك وقعوا في المطب الذي أرادت لهم هوليوود الوقوع فيه.
مشاهدة أخرى تتعلق ببطل فيلم “لا تعبث مع زوهان” وهو آدم ساندلر اليهودي الأميركي، كان ذلك عند عرض فيلمه الكوميدي السابق “كليك” والذي سخر فيه من العرب وخصوصاً الخليجيين إلى حد يبعث على الغضب، فيما جماهير دولة خليجية عُرِضَ في صالاتها الفيلم كانت تقهقه ضحكاً وسعادة على تلك المشاهد، بل وصل بهم الحال في أحد مقاطع ذلك المشهد إلى التصفيق بينما هم غارقون في الضحك، ما يثير علامة استفهام كبيرة عن مدى الوعي العربي بحجم الإساءة الهوليوودية التي تكررت مراراً في أفلام كثيرة، خصوصاً تلك التي تتحدث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو عن النفط والقضية العراقية.
كل ما سبق يُشعِر المشاهد العربي بحجم الفراغ الذي خلفته السينما العربية، والذي ترك لهوليوود متسعاً زمنياً وفنياً شاسعاً لنثر الأفكار والتصورات الإسرائيلية عن الشعب الفلسطيني والعربي برمته.
ومن خلال استعراض بعض الأفلام العربية التي قررت الحديث ولو في مقاطع عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كان هنالك بعض النقاط التي لا يتسع المقام لطرحها جميعها: ومنها التسطيح الفج الذي وقعت به تلك الأفلام، فليس فيلماً واحداً فقط من أقحم الانتفاضة الفلسطينية بطريقة أساءت لها وسطّحتها أكثر مما أفادتها، ففجأة يتمكن أبطال العمل من الوصول للأراضي المحتلة والمشاركة في إحدى جنازات الأطفال الشهداء ومن ثم رمي الجنود الإسرائيليين بالحجارة والعودة بسلاسة مطلقة من حيث أتوا، وهم بذلك لا يعلمون أنهم لم يتطرقوا لواحدة من أفدح خسائر الفلسطينيين والعرب في الصراع الستيني مع الإسرائيليين وهي منعهم من العودة لأرضهم بل وحتى زيارتها من غير تقديم تنازلات لعل أقلها التطبيع وطلب الإذن من المحتل!
كذلك الحال مع أفلام أخرى ارتأت أن تُقحم الشخصيات الفلسطينية في أحداثها من غير أن تأخذ وقتها في البحث عن ممثلين فلسطينيين يتقنون اللهجة على أقل تقدير، فكانت المحصلة شخصيات تتحدث المصرية وتريد إقناع المشاهد أنها فلسطينية! أو ارتداء تلك الشخصيات للكوفية الفلسطينية كعلامة كافية للترميز لهويتها من غير العمل على التقاط تفاصيلها الحقيقية.
أفلام أخرى سقطت في فخ الكوميديا غير المبررة فأضاعت الحبكة الدرامية بل وسخّفتها إلى حد يبعث على الدهشة، ولعل ليس آخرها “ليلة البيبي دول” الذي كان يسوق الحق الفلسطيني من خلال الحوار فقط جنباً إلى جنب مع المشاهد الجنسية الكوميدية التي شغلت جل وقت الفيلم فظهر الحق العربي إلى جانبها قزماً خجولاً.
وإن كان لا بد من التطرق لنقطة مهمة وهي أن هذه الأعمال باتت تصاب بالرداءة كلما توالت السنوات، بعكس الأعمال الهوليوودية التي تتفنن عاما بعد عام في تسخير وسائل سينمائية جديدة لنفث وجهات نظرها الإسرائيلية للعالم، فأين السينما العربية الآن من فيلم “ناجي العلي” الذي أداه نور الشريف في التسعينيات، وكذلك أفلام أخرى مثل “الطريق إلى إيلات” وغيرها، وكذلك المسلسلات التي لم تحظ باهتمام عربي كافٍ رغم دقتها وشموليتها فيما يخص القضية مثل “دموع في عيون وقحة” و”التغريبة الفلسطينية” و”الاجتياح”؟ أمام كل ذلك، وأمام الدفق السينمائي العربي، الذي لم يفلح في الترافع عن واحدة من أهم قضاياه، لا بد من الوقوف طويلاً للتدقيق في مسيرة السينما العربية وإنجازاتها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية خصوصاً والقضايا العربية عموماً.