هذا الأسبوع طالعتنا وسائل الإعلام خبراً مصدره إسرائيلي هي “صحيفة “يديعوت أحرونوت” يتلخص في أن فناناًأردنياً معروفاً قد توجه إلى السفارة الإسرائيلية في عمان وإلى وزارة الخارجيةالإسرائيلية، بطلب السماح له بالمجيء إلى “سديروت” لكي يصمم تمثالاً ضد العنف وضد صواريخ القسام سوية مع أطفال المدينة، كما اقترح على بلدية القدس نصب تمثال للسلامفي المدينة. قد يمر هذا الخبر على القراء مرور الكرام كغيره من عشرات الأخبار اليومية، المتدفقة على وعي القارئ العربي. لقد استوقفني هذا الخبر وشعرت بخطورته، بنفس حجم الخجل الذي اعتراني من هذا العرض من فنان أردني يعيش وسط شعب شقيق تقاسم معنا همنا وقضيتنا منذ البدايات. وبادئ ذي بدء لا يعنيني اسم الصاروخ الذي ذكرته الصحيفة الإسرائيلية بقدر ما يعنيني الموقف نفسه، فسواء عندنا أكان الصاروخ قسام أم سكود أو جراد أو حتى شحادة لا يهم.
والغريب في الأمر أن هذا الفنان العظيم، له سوابق في عرض أعماله في إسرائيل حيث تبرع من وقت قريب بتصميم عدد من التماثيل لمِا يسمى “مركزبيرس للسلام”، وأيضاً توجه مؤخراً إلى بلدية القدس باقتراح أن يقوم بنصب تمثال يصلارتفاعه إلى مترين من أجل الدفع بعملية السلام، وقبل عدة أيام عرض تماثيله في أحد أسواقها للمرة الرابعة. ونقلت الصحيفة عنه قوله إنه من المهم بالنسبة له أن ينقلرسالة من خلال التمثال الذي يقترح نصبه في سديروت ضد العنف وضد إطلاق صواريخالقسام. وأضاف أنه يتألم مع سقوط كل صاروخ في المدينة، وأنه يرغب في الوصول إلى سديروت لنقل رسالة سلام ودعم من الأردن، على حد قوله. وتابع أنهيجب إظهار أن هناك أصواتاً في العالم العربي تعارض إطلاق صواريخ القسام. وقالتالصحيفة إن رئيس بلدية سديروت “إيلي مويال”، قد رحب بهذه المبادرة، وتعهد بتقديمالمساعدة لهذا الفنان.
هذا الفنان العظيم، ونرجو الله ألاَّ يكون أمثاله كُثر، قد هاله ما يتعرض له المحتلون من قسوة الصواريخ الفلسطينية بشكلٍ عام، وليس صواريخ القسام، لأن مطلقي الصواريخ لا ينتمون لفصيلٍ بعينه، وتباكى بحرارةٍ وذرف دموع التماسيح على سديروت وأهلها الطيبون الوديعون. وتناسى وتجاهل عن عمد ما يتعرض له بني جلدته من الفلسطينيين من صنوف العذاب والإرهاب من سكان سديروت وغيرها، فلم نجد فكره المرهف بالسلام وعظمة السلام قد تفتق عن فكرة نحت تمثال يخلد فيه مآسي قومه من بني جلدته. فنحت تمثال لتخليد ما يتعرض له قومه يبدو أنه لن يجلب له الشهرة وذيوع اسمه في الصحف ووكالات الأنباء، بعكس لو قام بعمل شيء مماثل لصالح الطرف الذي يعتدي على قومه، فوقتها وحسب اعتقاده سيحصل على ما لا يتوقعه من دعمٍ من جانب دول ومؤسسات لا تخدم قضايانا، وقد يكون في الغد نجم عالمي تستضيفه الفضائيات العربية والعالمية.
والأكثر غرابة أنه يتحدث باسم غيره كما لو كان مفوضاً منهم، فهو فعل ما فعل وما سيفعله باسم الشعب الأردني، ورغم الصمت الذي يعترى هذه الأخبار عادة سواء رسمياً أو شعبياً ممن يهرولون نحو التطبيع مع الاحتلال وممن يعارضون أيضاً، لكن بالقطع فإن أهلنا في الأردن بريئون مما فكر وفعل أو سيفعل هذا الفنان، وربما يكون لموقف الفنان المشار إليه علاقة بالحالة النفسية المرضية أي المعتلة لهذا الفنان ومن على شاكلته فبات من المسلم به أن ديدننا في عالمنا العربي أن من يسقط ويفعل الخطيئة يُحمّل دوماً وزرها للمجموع العام، وكأنه هو فرد من جماعة كبيرة، وكأنه يريد أن يبيعنا وهماً مفاده أن جماعات كبيرة في العالم العربي تعارض المقاومة.
ومن المؤسف له والمحزن أيضاً أن كثيرون من العرب والمسلمين عندما يريد أحدهم الوصول للشهرة، فإن مفتاحها السحري وسلمها يكمن في فعل أو موقف أو رأى يتعارض وقيمنا ومبادئنا. وما موقف وفاء سلطان مع اختلاف الفعل عنا ببعيد، فإذا أردت شهرة وجاهٍ وأن يكون اسمك ملء الأفواه، فما عليك إلاَّ أن تدعي أنك حمامة سلام وديعة مكسورة الجناحين، أو ترتد عن دينك … الخ. ومما يؤسف له أن هكذا حالات بدأت تستشري في عالمنا العربي، ولا يوجد من يردعها لا على المستوى الحكومي ولا حتى على المستوى الشعبي. والخشية كل الخشية أن يُطلق العنان بدون حدود لهذه النماذج، ووقتها سيتحول جزء لا بأس به من مجتمعنا إلى عبيدٍ للشهرة الزائفة. ووقتذاك سيصبح الإسلام بالفعل غريباً في دياره وبين قومه. نسال الله أن يلطف بنا من معتوهين يريدون بيعنا بثمنٍ يخس.
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الأزهر – غزة