حديث التنمية والسياسات التنموية مصطفى إنشاصي كثيرين هم مَنْ قد يشاطروني الرأي بأن الوضع الفلسطيني والحديث عنه أصبح مثل للنفس ويدعو إلى اليأس والإحباط، وهذه ليست دعوة لأن نفقد الأمل والرجاء في الله تعالى بأنه سبحانه قادر على تغيير حالنا في فلسطين إلى ما هو خير منه، وهذا أمر يقيني لأن فلسطين ليست قضية أي مسمى كان، ولكنها قضية الأمة جمعاء، أي قضية هذا الدين وله سبحانه حكمته فيما يحدث، لذلك لا يجب أن نيأس أو نحبط أو نفقد الأمل؛ ولكن الحديث في الشأن الفلسطيني في ظل الظروف الحالية أصبح مؤلم ولذلك رأيت أن أقل من الكتابة عنه، أو أوقف الكتابة نهائياً في هذه المرحلة. مستقبل التنمية في وطننا يعتبر أهلنا في اليمن من أكثر الجماهير العربية حيوية وتفاعل مع قضايا الأمة، وذلك راجع إلى عدة عوامل؛ منها: إلى جانب فطرتهم السوية وقوة الانتماء الإسلامي والقومي وعندهم؛ تلعب المنتديات ومراكز الدراسات بندواتها المنتظمة والمقايل، التي يجتمع فيها النخبة والعامة والمستويات المتوسطة من أبناء اليمن يناقشون فيها الأوضاع الداخلية واليمنية وقضايا الأمة أولاً بأول، دوراً مهماً في تبلور الوعي عند أهلنا في اليمن نحو كل قضايا الأمة المصيرية وتجدهم من أكثر الجماهير العربية تفاعلاً معها. ولا يستطيع الإنسان حضور جميع تلك الفعاليات الأسبوعية التي تعد بالعشرات في صنعاء وحدها، ولكني اعتدت على المشاركة والحضور بانتظام في ثلاثة منها أسبوعياً، ولي حضوري ومشاركاتي الفاعلة فيها حتى إذا ما تغيبت افتقدت، وقد انقطعت عن إحداها منذ نحو شهر وذلك لأن العناوين التي تناولها ليست في مجال اهتمامي أو اختصاصي وكلها خاصة بالقانون والدستور اليمني وتعديلاتهما. ولكني ليلة الثلاثاء الماضي تفاجأت باتصال من إدارة المركز تؤكد على ضرورة حضوري محاضرة الغد وهي بعنوان: “مستقبل التنمية باليمن”، لأستاذ دكتور فاضل مختص ومتمكن في مجاله وموضوع المحاضرة. وقد لبيت الدعوة على الرغم من أن الموضوع ليس في دائرة اهتمامي خاصة وهو مقتصر على اليمن، ولكني ذهبت وقلت لنفسي ليس بالضرورة المشاركة بتعليق هذه المرة. وقد كان المحاضر كما قلت متمكن وملم بالأرقام والسياسات التنموية والعلاقات بالجهات ذات الشأن في ذلك الموضوع، وقد استفدت كثير جداً عن مجالات وسياسات التنمية الخاصة باليمن وعلاقاتها مع الأقطار والمؤسسات والجهات المانحة والممولة وغيرها. وبعد أن انتهى المحاضر من محاضرته وإذا بالمركز منسق مع أربع مختصين من دكاترة الجامعات باليمن للتعليق على الموضوع. وكنت أثناء المحاضرة قد أشرت لمدير المركز الذي كان مقدم ومنظم تلك الفعالية برغبتي في التعليق، وبعد انتهاء التعليقات بدأت دعوة الراغبين من الحضور في التعليق أو السؤال وقد كنت الثاني منهم. وفي الحقيقة لم يكن عندي ما أضيفه على تلك المحاضرة القيمة؛ إلا أني وجدت الأستاذ الدكتور مثل كثير من أبناء وطننا من المختصين أو أنصار التعاون والاستجابة للمطالب الخارجية بخصوص شروط التمويل وغيرها من السياسات التي يدعي الغرب أنها تنموية صالحة لوطننا حتى نتمكن من النمو السريع وتحقيق النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي …إلخ، ليس له تحفظات عليها وليست موضع شك عنده، وأن لها أهداف خبيثة وتدميرية لمقومات اقتصادنا الوطني والقومي، وقيمنا الروحية والاجتماعية وأنساق المجتمع وغيرها مما يهدف الغرب لتحقيقه من وراء ما يدعيه سياسات تنموية من أجل نهوضنا الاقتصادي! لذلك رأيت أن أبدأ مداخلتي من هنا، فأنا مِمَنْ يأخذون بنهج سيدنا حذيفة بن اليمان الذي قال: كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه. التنمية مفهوم للهيمنة الغربية بعد الشكر والثناء على المركز والمحاضر والحاضرة وأني لست من أهل الاختصاص ولكني من المهتمين كابن أمة منكوبة وقطر ينتمي إلى ما يسمونه بـ(الدول النامية) بالسياسات الغربية وقضايا الصراع مع الغرب على مدار مراحله التاريخية المختلفة، لذلك أنا أتعاطى مع أي مصطلح أو مفهوم يأتيني من الغرب بحذر وشك، والتنمية في أبسط مفاهيمها وأهدافها تعني: دمج اقتصاداتنا الوطنية والقومية في الاقتصاد الغربي! وفي هذه الحال إذا ما وضعتها في سياق الصراع التاريخي بين الغرب ووطننا منذ أن قسم الغرب (الإغريق) العالم إلى قسمين (إغريقي وبربري)، ومروراً بالاحتلالات الغربية لوطننا تحت دعاوى أننا دول متخلفة وأن المحتل يسعى لتمديننا وتعليمنا الحضارة وتخليصنا من التخلف الذي نعيش فيه، انتهاء بحديثنا عن التنمية ومساعدة اقتصادات أقطارنا على النهوض والتطور، فإننا سنجد أن التنمية هي أحد وجوه الهجمة الغربية ضد وطننا، ومجال من مجالات الصراع التي علينا التعامل معها بحذر وريبة وعدم أخذ كل ما يقدمه لنا الغرب من مشاريع أو سياسات إصلاحية لاقتصادنا دون التوقف معه والتدقيق فيه وتمحيصه. فمفهوم ومصطلح التنمية جاءتنا من الغرب الذي بعد استقلال أقطار وطننا عنه وإخراج قواته العسكرية منها، كان لا بد له من البحث عن مصطلح جديد غير الدول المتخلفة الذي كان يطلقه على أقطار وطننا يوم كان يجثم على صدرها بالقوة العسكرية، فاخترع مصطلح (الدول النامية)، أي أننا لم نعد متخلفين ولكننا تجاوزنا مرحلة التخلف وفي مرحلة النمو، وأن دفع عجلة النمو والنهوض يحتاج إلى التكنولوجيا، والتكنولوجيا ليس لها سوى مصدر واحد هو الغرب، الذي يزودنا بها بشروطه الخاصة، التي منها على سب
يل المثال: أن يزودنا بالخبراء من عنده ليعلمونا كيف نستخدم تلك التكنولوجيا، ولكي يعدوا لنا ما يصلح من خطط تنموية مستقبلية تساعدنا على النمو والنهوض، وذلك يتطلب إنشاء مراكز أبحاث ودراسات واستشارات …إلخ مما يضيع أموال القروض في الإنفاق عليها قبل أن نبدأ أي خطوة على طريق التنمية!. أف إلى ذلك أن شروط البنك الدولي لتقديم القروض، تلك الروشتة التي تتضمن خمس مطالب رئيسة، ويقدمها إلى جميع دول العالم دون أن يأخذ في الاعتبار اختلاف اقتصاد عن آخر، أو معتقدات وثقافة وحضارة دولة عن وأخرى وغيرها مما قد يجب أن يؤخذ في الاعتبار للتمييز بين الوصفة التي يقدمها البنك الدولي لهذه الدولة أو تلك، إلا أننا نجد أنها نفس الروشتة التي تسببت في تدمير جميع الاقصادات الوطنية للدول التي التزمت بها، بدءً من تخلي الدولة عن التزامها تجاه مواطنيها ودافعي الضرائب فيها، المتمثل برفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية، مروراً بالتخلي عن مجانية التعليم، انتهاء بالخصخصة وإطلاق يد القطاع الخاص، دون أن نتعلم أو نتوقف معها أو نأخذ العبرة والدرس من تلك التجارب. أضف إلى ذلك تلك الديون وفوائدها التي تثقل كاهل تلك الدول التي تقبل بشروط البنك الدولي وتعجز عن الوفاء بها، ما يوقعها تحت ضغوط البنك الدولي والدول الغربية والتدخل المباشر في سياساتها وشئونها الداخلية، ويضرها لتقديم مزيد من التنازلات التي تتجاوز النظام الاقتصادي إلى منظومة المعتقدات والقيم الاجتماعية التي تحافظ على تماسك المجتمع وصموده في وجه الهجمة الغربية ضد الأمة والوطن. وذلك هو المبتغى الرئيس من وراء تلك الأضاليل والخدع التنموية التي يضللنا بها، والدليل على ذلك أن كل تلك السياسات التنموية قد فشلت ليس فقط في تحقيق التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي في أقطارنا؛ ولكنها دمرت اقتصاداتنا الوطنية والقومية وحولتنا إلى مجتمعات استهلاكية أكثر منها منتجة، وإذا ما نظرت إلى الاستثمارات أو الصناعات التي شجعت عليها تلك السياسات التنموية تجد معظمها، شبسكي الأطفال والبسكويت والشيكولاتة بأنواعهما، والعقارات والخدمات وغيرها. إن التنمية ثقافة وثقافتنا تحولت مع تلك السياسات التنموية من ثقافة منتجة إلى ثقافة استهلاكية، وفي الوقت نفسه بقيت ثقافة النخب المختصة أو المالية والاستثمارية ولم تتحول إلى ثقافة جماهيرية، خاصة وأن التنمية تهم كل فرد في المجتمع لأنها تمس مصير وحياة كل واحد منه. لذلك علينا أن نعيد النظر في مفهوم وسياسات التنمية وشروط البنك الدولي ومنظمة الجات العالمية والدول المانحة، وأن نضع مفهوم وسياسات تنموية في أقطارنا في حدود إمكانياتنا المتاحة واحتياجاتنا الوطنية، حتى تكون تنمية مستدامة غير مرتبطة بالمقروض والمنح التي في حال توقفها تتوقف معها جميع تلك المشاريع المرتبطة بها، وتضيع تلك الملايين والمليارات من الدولارات التي دفعت عليها ولم يتم إنجازها.