قد لا يُصَدِّقُ عاقلٌ على وجه الأرض؛ أن عشرات الألوف من الموظفين الفلسطينيين الذين يقطنون في غزة ما زالت رواتبهم الشهرية مقطوعة منذ عام، تاريخ الانقسام الفلسطيني، وحتى اليوم، وذلك ليس بفعل الأعداء الصهاينة الغاصبين، وإنما بفعل الأخوة الفلسطينيين الذين غادروا جحيم غزة كما يصفون، وذهبوا للحياة في فردوس رام الله. ما هي مشكلة قُطّاع الرواتب؟في البداية ظن قُطّاع الرواتب أن غربتهم عن بيوتهم وأهلهم في غزة، لن تطول، فما هي إلا أسابيعٌ، أو شهورٌ على أقصى تقدير، ويعودون عودة المنتصر، يعودون فاتحين تحت ظلال علم الأمم المتحدة، أو غيرها، ليأتي المهنئون، والحامدون لهم سيرتهم، وتقام لهم المناسبات، وتدق لهم الأجراس، ولم يخطر في بالهم أنهم سيعيشون غرباء في رام الله، ولم يحسبوا أن غربتهم المكانية ستطول لأكثر من عام، وما حسبوا أن غربة المكان ستتحول إلى اغتراب عن الزمان، فإذا كانت الغربة المكانية مقدور عليها بالتأقلم، والإنفاق، والسهرات، والأمسيات، ومسايرة الحال السياسي، إلا أن الاغتراب عن الزمن، وعن الواقع هو المأساة التي تزلزل العقول، وتمس الوجدان، وتخلخل طريقة التفكير السوية.ماذا تقول غزة هاشم؟دون التطرق للأسباب السياسية، فإن الحالة النفسية التي يعاني منها قُطّاع الرواتب باتت السبب في الإصرار على قطع رواتب موظفي غزة، دون خجل، فهم يحاولون إثبات وجودهم، والإعلان عن بقائهم أحياء، وأنهم أصحاب القرار، فهم بقطع الراتب يجدون تعويضاً عن عجز، وتنفيساً عن اختناق، فمن يستطع يصفع، ومن لا يستطع يقطع، كما يقول الناس في غزة، فما دام قاطعو الرواتب يعيشون في غربة، واغتراب، فلن يسمحوا لغيرهم بالعيش في راحة وهناء، ولن يسمحوا بصرف الراتب الشهري لمن يعمل، وإنما الراتب لكل من يقعد في بيته، يتعلم فن الطبخ، ويجهز الحليب للأطفال، وينام النهار، ويسلي نفسه كل الليل، ويعاني سجن الفراغ، كما يعاني القاطع نفسه سجن الاغتراب، فأي ثقافة هذه يا رام الله؟.مقطوعو الرواتب في غزة يحاولون البقاء بشتى الطرق، وتدبير الأمر المعيشي، فقد تعودت غزة على الجوع، والحرمان، والحصار، وحافظت على شرفها، وكرامتها، وعزتها، وصمدت، وتحدت، واجتازت مرحلة الانفلات الأمني، والفساد، والعائلية، والمحسوبية، والوظائف الوهمية، والمصاريف الجانبية، والنثرية، ولكن أنتم يا قُطّاع الرواتب فقد صرتم غرباء في حاضركم، ومغتربين عن ماضيكم، عن طفولتكم، طفولتنا المشتركة التي عشناها في غزة بعد نكبة 1948، وكل سنوات الخمسينات، هل تذكرون؟ لقد كان الفقر والبؤس يرضع حليب طفولتنا في شوارع المخيم؟ لقد مشينا إلى مقعد الدرس حفاة، أتذكرون يا سكان الفردوس؟ ولم نشبع الخبز إلا من مراكز تموين الأونروا! هل نسيتم؟ وأنا، وأنتم لم نذق طعم اللحم في طفولتنا إلا في “الطعمة” مراكز التغذية التابعة لوكالة الأمم المتحدة! هل تذكرون؟ وتالله هذا ليس عيباً، أو نقيصة، يا من سكنتم رام الله، وتمارسون هواية قطع الأرزاق؟ وإنما النقيصة أنكم نسيتم دلالة جملة [ ليس للبيع أو المبادلة ] التي كانت مكتوبة على سراويلنا المصنوعة من أكياس الدقيق المقدم هدية من شعب الولايات المتحدة!مَنْ للمقطوعة رواتبهم؟للمقطوعة رواتبهم الصبر، والتقشف، والعودة إلى بطاقة التموين، والشئون الاجتماعية، وأهل الخير، ولهم الأمل بنهاية القصة الحزينة من الانقسام المقيت، وتقسيم الغنائم المالية فيما بينكم، فهم لن يموتوا جوعاً في هذه الأرض المباركة التي خابية القمح فيها لا تنضب، وخوار الزيت لا يفرغ. أما أنتم يا قطّاع الرواتب، فإن المقطوعة رواتبهم يدعون لكم بالعودة إلى غزة، والاستقرار النفسي، ويشفقون عليكم، ويقدرون غربتكم في رام الله، واغترابكم عن الواقع، ويذكرونكم بالأموال التي جمعها اللواء موسى عرفات، واللواء غازي الجبالي، ومدير هيئة الإذاعة والتلفزيون هشام مكي، وخالد سلام [ محمد رشيد] وغيرهم الكثير، وقد كانت مفاتيح خزائنهم تنوء بحملها عصبة من الرتب العسكرية، أين ذهبت؟ وأين ذهبوا، وما قيمة ما جمعوا؟ أين الذين حسبوا أن الأرضَ واقفةٌ، وأن المال زينتهم؟ أين ذهب سلطانهم؟إن قطع الراتب عملاً إجرامياً لا يقل بشاعة عن التفجير الذي حدث على شاطئ بحر غزة، ويحتاج إلى حسم، بل أن قطع الرواتب أكثر وحشية وساديةً، لأنه يحرم عشرات ألوف الأسر الفلسطينية من لقمة العيش، ويعزز التقسيم السياسي للقضية الفلسطينية، والتمزق التنظيمي بين أبناء الشعب الواحد، ويخلق التفرقة الجغرافية البشعة بين سكان قطاع غزة، والضفة الغربية، ولاسيما أن كل المقطوعة رواتبهم من موظفي قطاع غزة المحاصر. الملامة على دولة الإمارات العربية وهي تقدم للفلسطينيين 42 مليون دولار لرواتب الموظفين دون أن تسأل رام الله: هل ستصرف رواتب موظفي قطاع غزة المقطوعة؟