في خطابه الأخير التاريخي والهام بمناسبة ذكرى مرور العام الثاني على انتصار المقاومة اللبنانية في حرب تموز (يوليه)، تناول السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني، عدة قضايا مهمة، وخاصة في الموضوع الفلسطيني وسوف نتناول في هذا المقال المتواضع بالتحليل كلامه ومحتواه، وأول ما نقف عنده هو ما قاله: (أن الإسرائيليين والعديد من قادة الدول الكبرى اتفقوا على نزع سلاح المقاومة، لكن مساعيهم فشلت وجاءت حرب تموز (يوليه) 2006م, لكنهم لم ييأسوا وحاولوا من جديد). ومن الثابت بكل المؤشرات بل بات تحصيل حاصل القول أن المقاومة سيدة الموقف لا يستطيع كائناً كان أن يفت من عزمها. غير أن سيد المقاومة العربية تجاهل كشف الدور العربي الرسمي المخزي للبعض أثناء الحرب مع إسرائيل، برغم تساوقهم مع الهدف الإسرائيلي - الأمريكي الى أبعد الحدود، أملاً في القضاء على قلعة المقاومة الحصينة في لبنان. كما تجاهل السيد نصر الله تلك الفتاوى من بعض المراجع الدينية العربية في تجريح المقاومة، وصل بإحدى الفتاوى إلى حد الزعم بأن مجرد التعاطف مع المقاومة في لبنان لا يستقيم والدين الحنيف، وعلى الرغم من هذا التثبيط فقد تواصلت انتصارات المقاومة في لبنان، وهو بمثابة ذبح من الوريد للوريد لهذه المرجعيات المزعومة. وعلى المستوى الشعبي العربي بات المسلمين ينظرون إلى هذه المرجعيات نظرة فيها الكثير من التقليل من شأنهم، بعدما جهروا بمواقفهم.
وبالعودة الى أيام النصر والعزة حيث انتصرت المقاومة واعترف العدو بالهزيمة وسقطت رؤوس قياداته العسكرية والسياسية تباعاً في منظر دراماتيكي، ولازال حال القادة الإسرائيليين في حيص بيص مما حققه حزب الله اللبناني، وفي جوٍ مشحون بالخزي والعار. ومع ذلك وكعادة المتخاذلين في عالمنا العربي المسكون بعقدة الهزيمة، انبرت الأفواه والأقلام لتخدع السُذج ولتقلب الحقائق، وتقلب النتيجة وتعتبر أن إسرائيل هي التي انتصرت، وأن المقاومة انكفأت إلى الخلف. ولا ندري من نصدق عدونا المعترف ضمناً بالهزيمة، أم أقلام قومنا المأجورة، التي لا تريد بل ليس في صالحها أن ترى الأمة تخرج من كبوتها.
وتمسك السيد نصر الله بالثوابت التي فرط فيها الكثيرون من الزعماء والقادة العرب عندما قال: (أن المقاومة هي الطريق الوحيد للشعب الفلسطيني بعد انسداد الأفق والشروط الإسرائيلية المذلة, مشيراً في الوقت نفسه إلى أن المقاومة بالعراق ناجحة في محاربة الاحتلال الأمريكي). واعتقد أن السيد نصر الله قد أصاب كبد الحقيقة فيما قال هنا؛ إذ لم يعد أمام الفلسطينيين من خيار سوى مواصلة طريق ونهج المقاومة بعد أن سقطت ورقة التوت خلال أكثر من خمسة عشرة عاماً عن التسوية مع إسرائيل، واعتماد قادة العرب وزعماء فلسطينيون السلام والمفاوضات كخيار استراتيجي. وليس واضحاً أن عرابين التسوية سيقبلون ويعلنون فشل أي اتصالات مع إسرائيل وصولاً الى السلام أو حتى بعض الحقوق الفلسطينية؛ ذلك أن التاريخ والعقيدة تؤكدان أن الإسرائيليين لا يهدفون الى السلام في أي مرحلة، والخشية الكبيرة أن يصل حال هؤلاء العرابين إلى القبول بأية صيغة حل بمعنى المزيد والمزيد من التنازلات لصالح الأهداف الإسرائيلية.
إن مسلسل المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية يشبه إلى حدٍ بعيد تراجيديا المسلسلات الأجنبية الطويلة، كما هو حال المسلسلات التركية التي نعاصرها والمسلسلات الأمريكية والمكسيكية التي عاصرناها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين؛ فهذه المسلسلات طويلة نسبياً لكنها تفتقر للقصص الهادفة. فالجمهور يتابعها بشغف لكنه يملّ منها قبل نهايتها، وهذا هو حالنا مع مفاوضاتنا مع الجانب الإسرائيلي، تابعناها بشغف في بداياتها لعلنا نصل معها لشيء ملموس؛ وإذ بنا مع مرور السنين نمل منها، ولم نعد نكترث بها، لدرجة أن البعض يريد أن يصل معها لأي حل مهما كان حتى ولو على حساب الثوابت الوطنية والقومية.
وأما عن ما قاله السيد نصر الله عن المقاومة العراقية فإن الصورة أبلغ مما يمكن أن نكتب عنها، فبعد خمس سنوات عجاف من الاحتلال الأمريكي، لم تُرسخ أقدام المحتل في بلاد الرافدين، ويتكبد يومياً خسائر بشرية ومادية وأخلاقية. وأضحى العراق يؤرق المواطن الأمريكي قبل قيادته، وبات العراق حلماً مزعجاً لهم جميعاً، حتى أنه أنساهم ورطتهم السابقة في فيتنام، بعدما غرقوا تماماً في مستنقعات دجلة والفرات. وهنا يقول السيد نصر الله: (بعد عامين يتكشف لنا أكثر عظمة الحرب والحجم الهائل للإمكانات العسكرية للعدو وحجم التواطؤ الدولي وبالمقابل حجم الصبر والتضامن بين المقاومة والشعب .. يوم بعد يوم يتأكد أن الجميع يملك القدرة على تجاوز الأحزان والأخطار، والشعب اللبناني بالرغم مما أصابه يصبر على ذلك ويعتبره جزءاً من واجبه). والرجل أيضاً محق فيما ذهب إليه، فلا توجد دولة على وجه البسيطة تستطيع أن تتحمّل ما تحمّله لبنان الصغير بمساحته الجغرافية. البلد دُمر بالكامل، والمؤامرات حيكت ضده دولياً وإقليمياً ومحلياً من ذوي القربى، وعلى الرغم من تنوع الفسيفساء اللبنانية طائفياً، إلاَّ أنه بفضل الله ووقوفه إلى جانب الأطهار خرج لبنان من محنته العسكرية معافى. ولِما لا ونحن نعلم أن اللبنانيين شعب بنَّاء، سرعان ما يعمّر ما تمَّ تخريبه بالأمس، وهذا
سر نجاحه وقوته.
سر نجاحه وقوته.
وجدد السيد نصر الله توقعاته بنهاية وشيكة لدولة إسرائيل, تلك التوقعات التي لا يذكرها من فراغ، وإنما تنبع من ثقته المطلقة بقيمة الإنسان المقاوم أيَّاً كان، الذي إذا ما أراد أن يفتت الصخر فسوف يكون بمقدوره، ما دام يملك الإرادة. وفي هذا المضمار يقول سيد المقاومة: (تستمر التداعيات على المستوى السياسي حيث انتهت الحياة السياسية لكامل الطاقم الحاكم في إسرائيل، وأن شهر أيلول المقبل سيشهد نهاية رأس الحكم الإسرائيلي أولمرت، وستبقى نتائج حرب تموز تفرض نفسها في صراعات الأحزاب الإسرائيلية حيث يعرف زعمائها أنهم يواجهون أقسى مشكلة قيادة في تاريخهم). ومرة ثالثة نقول أن السيد نصر الله محق؛ إذ يعترف قادة إسرائيل اليوم أنه لم يعرف تاريخ إسرائيل تدهوراً وضعفاً وهواناً هو عليه الحال اليوم ومنذ حرب تموز. وتحدثوا بصراحة شديدة عن ذلك النصر الذي حققه حزب الله وانتكاسة الكيان الإسرائيلي، فأصبحنا نرى أن رؤوساً كانت تتباهي وتتبختر بعظمة دولتهم وأبهتها تكنولوجياً وعسكرياً سقطت كأوراق الخريف، رأس يلي رأس والبقية تأتى. هذا النصر الذي حققه حزب الله حق لنا أن نفاخر به.
إن جيوش اثنين وعشرون دولة عربية مجتمعة لم تستطع على مدار ستون عاماً أن تفت من عضد جيش إسرائيل الذي على الأثر بات يروج له ويوصف بأنه لا يقهر. بل ويا للأسف والخيبة فقد تجرعت هذه الجيوش كؤوس الذل والهوان على يد الجيش الإسرائيلي. غير أن المارد الإسلامي نهض ونهض معه الفينيق من رقاده كما في الأسطورة المشهورة وهو اليوم باسم المقاومة الإسلامية، لهدم الكيان الإسرائيلي ووقف عدوانه على الأرض العربية في لبنان وفلسطين، وليطرحوه أرضاَ بعد أن مرغوا وجهه في الوحل، وليهيم هذا الكيان على وجهه لا يدري ماذا يفعل في الغد بعد أن كان يملك كل أوراق اللعب والمساومة. ولأول مرة في تاريخ إسرائيل يقف قادتها عاجزون عن اتخاذ قرار أي قرار، تارةً يهددون باجتياح غزة، ثمَّ ينكصون على أعقابهم خشية تعرضهم لخسائر فادحة متوقعة، بل ويضطرون لتوقيع اتفاق تهدئة مع تنظيم فلسطيني لا يعترفون به، مما يعني أنهم فقدوا خيار فرض الأمر الواقع على غيرهم وإن كان أضعف منهم وأقل شأناً في ميزان قوتهم. وتارةً يهددون سوريا، ثمَّ نجدهم يتفاوضون معهم سراً، وأخيراً يهددون بسحق إيران، ومع ذلك نجدهم أعجز من القيام بذلك، بعدما تيقنوا أن القوة التسليحية الإيرانية أعظم من تنفيذ تهديدهم، وأن خطر مهاجمة إيران سيترتب عليه بداية تنفيذ الوعد الإلهي بزوال دولتهم؛ إذ أكثر ما تخشاه إسرائيل الآن هو القوة التدميرية الصاروخية المتواجدة لدى ثالوث بات يؤرقها ويقض مضجعها متمثل في إيران وسوريا وحزب الله مضافاً إليه الصواريخ الفلسطينية المتواضعة.
بارك الله فيك يا سيد المقاومة العربية وملهمها، ومفجر طاقاتها المُهدرة والمهترئة، وبارك في رجالك رجال الله الذين لم يتوانوا عن صنع المعجزات، وبارك في لبنانك زعيم العالم العربي الجديد باستحقاقٍ وجدارة، وبالفعل وليس بالقول. زعامة استحقها وانتزعها من بين أنياب الأسد ولم يرثها، فالزعامة ملكٌ للأقوياء والمنتصرين وليست للمتخاذلين.
الأستاذ المشارك في التاريخ الحديث والمعاصر
جامعة الأزهر – غزة