م. زياد صيدم
أيقظته المضيفة من نومه في الدرجة الأولى .. قبل أن تحط طائرة الجامبو على مدرج أرض المطار، معلنة وصول الرحلة بسلام قادمة من استراليا .. كان على عجالة من أمره ، هكذا كان يهمس لضابط الجوازات لإنهاء معاملاته بالسرعة الممكنة..فوليد يريد اللحاق بموعد اجتماع هو الأهم حدثا في حياته ، والذي تابعه منذ شهور على موقع إحدى الشركات الكبرى التي تعود ملكيتها إلى احد الرجال المهمين في حياته ؟.. انه يوم إعلان توزيع التركة لحشد من الورثة ، الذين استطاعوا جلب إثباتاتهم بالقربى من المتوفى الكبير منذ أكثر من ستة شهور.. لم يكن المتوفى رجل عادى، لقد كان كبير بنفوذه الذي اكتسبه نتيجة أموال طائلة ،هي حصيلة شركاته المتعددة وعقارات ومصانع نسيج انتشرت في كل مكان..جمعها بداية من غربته، ثم عاد ليستثمرها في وطنه يفيد أبناء شعبه،هكذا كان شعوره الوطني الثابت ،نتيجة وعيه وإدراكه بمدى حاجة الوطن إلى أمثاله. اليوم تحديدا سيعلن محامى المرحوم الخاص عن قائمة أسماء من ثبتت قرابتهم به ، سواء البعيدة أو القريبة .. وعن كيفية توزيع الميراث ونصيب كل واحد منهم.
جلس في آخر الحضور، بعد وصوله في الميعاد المحدد ولكن الجمع قد سبقه منذ أكثر من ساعة ، بحث بنظره على كرسي بصعوبة وجده ، بعد أن خجل احد الحاضرين فأزاح طفله على مضض مبتسما له ، كمن يتجمل بتقديم خدمة كبيرة ! .. وما هي إلا لحظات حتى بدأ المحامى بمقدمة حديثة ، مفندا بداية مناقب المرحوم وأفضاله الكثيرة والجليلة.. من أعمال الخير التى ينفق عليها لاسيما دار الأيتام التى يتكفل برعايتها شهريا .. وذلك قبل أن يُدلى بالأسماء المثبتة شرعا وحسب الأصول المعمول بها في حالات الميراث والورثة ، لمن مات وحيدا بلا أسرة له أو زوجة، والتي أخذت جهودا حثيثة ومضنية ، منذ أكثر من ستة شهور في البحث والجهد ..
كان مكتب المحامى بصالته الفسيحة تعج بالحاضرين من الورثة ومرافقيهم .. بحكم أن المتوفى لم يكن متزوجا، ولم يُعرف الكثير عن حياته الخاصة .. وكل ما عُرف ظاهرا عليه ،عيشه وحيدا فقد كان كثير السفر وقليل الاستقرار في مكان ثابت ، فأخذ من الفنادق الراقية مسكنا له، فكان عذر مقبولا من الآخرين لعزوفه عن الزواج ! .. لم يقفوا كثيرا عند هذا الوضع .. فهو يغمر الجميع من خيره ، فلا يدع مجالا لنق أو كثرة همس أو لمز عليه.. فهو مصدر رزق مئات من الأسر المنتفعة .. كما أن معاملته الحسنة وعطفه ، جعلته محبوبا ، وأكسبته رضي الجميع واحترامهم .
كانت وجوه الحاضرين مستبشرة ، فرحة مبتسمة ، فمنها تلك السيدة التى أصدرت زغرودة خرجت من أعماق حنجرتها ، بحركة عفوية لا إرادية من شدة فرحها.. ومنهم من اخذ يتراقص مع ابنه الصغير الذي تعمد إحضاره ليشهد أجمل لحظات عمره فتكون فاتحة خير في حياته ، هكذا كان يتمنى له قبل أن تربت على كتفه زوجته المنتشية ، بان يستحى قليلا ويتوقف ، ولكن لا حياة لمن تنادى ، فهو في عالم آخر ، هائم فيه لا يسمعها.. ومنهم من يدعى الوقار فيجلس كالملوك بحركات متثاقلة بطيئة ، ولكن خفقات قلبه تكاد أن تقفز من بين ضلوعه طربا فتفضحه ، فهي تُسمع بوضوح لمن يجلس جواره مدعيا عدم الاكتراث، فهو أيضا نوع آخر ادعى الصمت والوقار، لكن عينيه الجاحظتان ببياض ناصع من شدة انبهاره ، وعدم تصديقه لما يحدث كانتا دليلا على عكس ما كان يتظاهر.. لقد كانوا جميعا ضمن قائمة السعادة والحظ الكبير.. كأنهم في حلم ، حيث شوهدت بعضهن توخز رفيقتها التى اصطحبتها معها، فهي سريعة الإغماء والتأثر من الأحداث الكبيرة، ولتشهد معها يوم من أيام العمر لا يتكرر ، فكم كانت فرحتها غامرة، عندما أثارت رفيقتها فامتعضت فزعا من شدة الوخز في جنبها ، فتأكدت يقينا بأنها ليست في حلم جميل ،ولكنها في حقيقة من واقع أجمل .. فانتشت طربا.
عندما انتهى المحامى من ذكر الأسماء
متتالية ، زخرت الصالة بهمهمات وقُبل هستيرية ، حتى أن أحدهم مال على امرأة بجواره ، وقد احتضنها بذراعه قبل أن يستوعب الأمر ويحمر وجهه خجلا ، بأنها ليست بزوجته التى غادرت إلى الحمام قبل دقائق .. فحمد الله على أنها كانت وحدها ، ولم تر زوجته سخافة المشهد..
بينما القاعة تموج في لُجة من الصخب والفرح العارم، وضوضاء لا حدود لها من أصوات التهنئات والمباركات المتبادلة.. وبينما الحال على هذا .. صمت الجميع فجأة على صوت قادم من آخر الصالة لرجل في الثلاثين من عمره !، كان وليد يشير ملوحا بيده إلى المحامى قائلا بصوت جهوري مسموع توقفوا.. توقفوا جميعكم !، كررها بينما كان يخترق الحضور ممسكا بحقيبة سوداء غريبة نوعا ما !.. و ما أن وصل إلى طاولة كان يجلس عليها المحامى ومساعده.. ركن الحقيبة عليها كواثق ، وقام بفتحها في الحال، مخرجا منها أوراق عدة ، كان قد وضعها في حافظة من النايلون، بشكل يوحى على مدى أهميتها .. وبحركة واثقة قام بتسليمها للمحامى ، واحتفظ في يده بوثيقة كبيرة الحجم، بدت عليها قدم السنين ولكنها محفوظة بشكل جيد .. لوح بها بيمينه ، متجها صوب الحضور ، بعد أن ساد الصالة صمت مريب وحذر !، حتى كادت أن تختفي الأنفاس من صدور الحاضرين قائلا: أما هذه وما زال يلوح بها في الهواء ، فهي عقد زواج شرعي صادر من المحكمة الشرعية هنا في مدينتكم الموقرة ،باسم المتوفى على الفاضلة خديجة ، تاريخها يرجع إلى ما قبل ثلاثين عاما ؟.. وتستطيع التأكد من رقم القيد والتسجيل غدا من المحكمة الشرعية ،موجها حديثه للمحامى بعد أن استدار صوبه ..ثم استبدلها بورقة أخرى مستدركا حديثه: وهذه شهادة ميلادي الأصلية ، وقد سُجلت وخُتمت من هنا تثبت باني ابن المتوفى واسم والداي رحمهما الله مثبتا عليها.. وقام بوضعها بين المرفقات الأخرى ، وتركها بين يدي المحامى ، الذي كان في تلك اللحظات فاغرا فاه دون أن ينطق بكلمة مفهومة ، بل كان يرمق مساعده بنظرات التعجب والاستهجان والتأنيب ، لما لها من وقع الصدمة على الحضور، والمفاجأة والتحقير له ولسمعة مكتبه ، فهذه المفاجأة بدت كأنها درب من دروب الخيال ، أو كمشهد دراماتيكي لأحد أفلام السينما ، هكذا كان يردد مساعده مستهجنا..
وجمت وجوه.. واسودت أخرى.. وأصاب بعض النسوة حالات من الإغماء .. وآخرين بدئوا بإصدار أصوات ، أشبه بهلوسة حُمى ليلية بدرجات حرارة اقتربت من درجة الموت..وهم يرددون هذا ابنه الشرعي والوحيد ؟ويرد آخر : إذا هو الوريث الوحيد له ؟، وبدأ يضرب كف على كف ، شاهده آخر كان قريبا منه، فما كان منه إلا أن بدأ في تقليد حركات يديه مضيفا إليها ذهول وعبس على تقاسيم وجهه، فتحولوا جميعهم أشبه بنسوة من الأرياف قد اجتمعن ينتحبن في ميتم لعزيز قد مات ..
بالرغم من هذا الإحباط والذهول الذي ساد الصالة، كان هناك أمر قد اتفقوا عليه جميعا.. بل واشتركوا فيه بنفس اللحظات العصيبة ،التي أطاحت بأحلامهم برمشه عين..؟ إنها نظراتهم بحقد و ازدراء شديد ومقيت ، إلى تلك الحقيبة السوداء غريبة الشكل وما بداخلها أولا ، والى حاملها الشؤم ثانيا .. إلا من رجل في الستين من عمره ، كان اسمه من ضمن الأسماء ، بدا عليه الفقر وهموم وأحزان الدنيا ، حيث ارتسمت بخيوط غائرة من تجاعيد داكنة على تقاسيم وجهه ..لكن ذاكرته ما تزال حية نشطه ، فقد لمعت عبر سنوات خلت .. فاستعاد أمر قد مر كالسهم سريعا أمام عينيه المتشحتين بالحزن ، مخترقا ذكريات الماضي كلمح البصر ؟..
فانفجر ضاحكا.. بقهقهات هستيرية متتالية دون توقف .. بينما كان متجها نحو باب الخروج كان لا يزال مقهقها.. وما يزال ينظر بلوعة وحسرة إلى وليد ، ذاك الابن القادم من أقصى العالم محدقا بحقيبته السوداء ، وما أن وصل إلى الشارع العام ، وقبل أن يتوارى عن الأنظار بين حشود تجمعت في موقف المترو، شوهد وهو يبتسم وقد استكانت سرائره ، وهدئت روعته ، وتبدلت إلى ما يشبه هدوء ملائكي رائع .. وسُمعت كلمات تخرج من بين شفتيه.. يشكر فيها ربه حامدا فضله ونعمته .. وبدت عليه سعادة لا توصف . !!
إلى اللقاء.