سلّم على بيتنا يا غريب، فناجين قهوتنا لا تزال على حالها، هل تشمُّ أصابعنا فوقها؟ نعم، يا محمود درويش، بهذه البساطة في الجملة الشعرية، أعلنت موقفك، وحسمت أمر الصراع السياسي على الأرض الفلسطينية، وداويت بوجدانك الجرح الذي يحاول عدوك ترميمه على فسادٍ، وبهذا النقاء الوجداني تصير قريباً، ويظل عدوك غريباً، يشم بصمات أصابعك على فنجان قهوتك الذي صار بالإرهاب فنجان قهوته، ويتبع خطوة أقدامك، التي صارت بالدبابة خطوته، ويقلد تراثك، وسيرتك، لتصير تاريخه المزيف، ويقلم شجرك، ويعلف طيرك، ويتسلق على نجومك، ويستسقي المطر من سمائك، ويبعثر أمنياتك، ويقطف ثمرك، لتصير له دولة لا يزال فيها غريباً، يا قريباً، وهاجساً يقلق راحة الغريب، وهو يتلمس وجودك الغائب في حجرة نومه، ويستشعر وقع أقدامك على سطح منزلك، وسيظل غريباً تطل عليه من نافذة الأحلام الليلة، رغم طائراته، وأجهزة التصنت، عدوك لا يزال غريباً عن هذه الأرض التي جاءك ملك الموت وأنت غريباً عنها، أيها القريب الذي ما اتسعت واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط على احتواء جسدك حيث المنبت الذي أحببت، يحسبك بعيداً عنها، وأنت فيها منذ ستين سنة من الاغتصاب لتراب فلسطين، لا يزال غريباً عنها، وأنت القريب منها يا محمود، رغم مسافات الألم التي تفصل قلبك الفلسطيني عن شرايين الجسد، ورغم حالة الانحطاط التي تمر بالمفاصل الفلسطينية، ورغم وهن العضلات العربية. يا محمود درويش، لطالما وقفنا ببابك، نتعلم منك فن الترتيل، وهدير المعاني، وفن الترتيب ووشوشة الأغاني، وأخذنا عنك، وامتصصنا رحيق خيالك العذب في توليف الصورة الفنية، لقد تزودنا من شعرك في مسغبة السجون يوماً، ونحن نردد في الزنازين خلفك: وطني، يعلمني حديد سلاسلي عنف النسور، ورقة المتفائلما كنت أحسب أن تحت جلودنا ميلاد عاصفة، وعرس جداولسدوا على النور في زنزانة فتوهجت في القلب شمس مشاعل اليوم نجمع عليك، وتلتقي كل الأطياف الفلسطينية خلفك على كلام من حرير، أنت المتوج بزهر الفكرة والتعبير، نمشي بقامتك الممشوقة خطوات الثقة بفك القيد، والتحرير، أيها العائد إلى فلسطين ممداً في الكفن، كي تؤنس البيت الذي أوحش بالخلافات بين أخوة الدم، والمصير، إن البيوت تموت إذا غاب أصحابها، نتوحد اليوم تحت شمس آب بعد غياب، ونحن نردد معك ما عايشته كل أم، وأخت، وابنه، وامرأة فلسطينية، تناجي السحابة قائلة لها:غطي حبيبيفإن ثيابي مبللةٌ بدمهكل ثياب الفلسطينيين مبللة بدم الشهداء، وكل أجسادهم عارية من دون ذلك الثوب المبلل كبرياء، وكل نفوس الفلسطينيين خاوية إن لم يبد منهم حرصاً، ونهجاً، وفعلاً يغطي بالحوار الفلسطيني عورة قضيتهم المكشوفة، ويستر بالوحدة الوطنية الإسلامية سوءتهم، ويغطي بالتسامح، والصفح، والمحبة جسدك، وأجساد الشهداء المتحرقة تحت شمس التفرقة الملتهبة، والانقسام المقيت، والتمزق البائس.نم يا محمود درويش، نم في حضن التراب الذي انشق عن شعبٍ أبيٍّ لا يعرف الوهن، نم، فقد تدلت قطوف شعرك المقاوم على الروابي كالزمن، وظلّلت رؤيتك الثوابت الوطنية في المحن، نم يا محمود، فقد أورقت أغصان روحك وفاءً، وكبرياءً في الكفن. وإنّ غداً سينبت في أجنحة السياسة الفلسطينية ريش التآخي، والكرامة، والشجن.