عبد الوهاب المسيري ذلك المثقف المسؤول:
ما يربو عن شهر ودعت الأمة رجلا عظيما من طينة عبد الوهاب المسيري، انه المفكر العظيم والمثقف المسؤول الذي أفنى حياته في تقديم ما ينفع الثقافة العربية الأصيلة التي غلبت عليها آفة التسطيح والمضاربات الأيديولوجية الرخيصة ،وجاهد في نقلة ثقافية نوعية بها من ثقافة توصيلية نقلية تراثية مقتبسة سواء كان تراث الأجداد من العرب كما هو حال السلفيين بشتى اتجاهاتهم ،أو تراث الأنداد من الغرب كما عند الحداثيين بمختلف عناوينهم، الى ثقافة تحصيلية التي تسعى الى تكريس التبعية لأحد الاتجاهين دون أسنان تقضم ولا معدة تهضم على حد تعبير جبران خليل جبران، الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله شأنه شأن المثقفين الكبار في العالم العربي لم يرض بهذا الاتجاه ولا ذاك بل سعى الى ثقافة تأصيلية تراعي المجال التداولي العربي بتعبير الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، ثقافة تأصيلية تنفذ الى أرض فكرنا البوار وتمكث فيها لتزهر إبداعا موصولا بهموم الأمة المسترسلة والموسومة بتخلف حضاري شامل تتحكم في بوصلته شرعية سياسية مغشوشة مسنودة بالمال والإعلام، وذلك بمثابرته وجديته في القراء والتفكير والنقاش الى أن استوت سلطة قوله وفعله، من جامعة الإسكندرية الى جامعتي كولومبيا ورتجرز بالولايات المتحدة الأمريكية أتقن المسيري تخصصه في الأدب الانجليزي الذي بقي وفيا له حتى السنوات الأخيرة من عمره .غير أن اهتماماته المعرفية، كما كان ديدن المفكر الفلسطيني البروفيسور ادوارد سعيد، سرعان ما اتسعت لتطال كبار القضايا التي تشغل عالمنا العربي مما جعل أثره في نفوس الناس من العامة والنخبة وشما في القلوب والعقول يصعب محوه .
كان المسيري مفكرا متعدد المواهب بحيث انه لم يرسُ على مرفأ واحد كما هي حال المثقف الذي جايله ، فكتب نصوصا هامة في الشعر ، وكتب في مجالات النقد الأدبي العربي والانجليزي ، وفي القصة وحتى قصص الأطفال ، كما كان يطمع أن يكتب دراسة حول النكتة السياسية كما حكت عنه رفيقة عمرة د.هدى حجازي في برنامج بلا حدود مع الجزيرة يوم 23-07-2008 غير أن هازم اللذات/ الموت قد عاجله، علاوة على مقالاته النقدية التي كان يداوم على نشرها في صحف ومجلات ومواقع الكترونية ،غير أن إسهاماته الكبرى التي أبهرت المواكبين والمتابعين للسؤال الثقافي العربي كانت حول الصهيونية التي سلخت من عمره عشرين سنة كاملة ، وأنفق من أجلها كل ما يملك من متاع الحياة الدنيا الفانية، وأسس عمرانا ثقافيا جديدا في قمة الإبداع والعطاء الفكري في مقاربته في تحليله للعلمنة وفي تفكيكه لإشكالية التحيز.
دراسات المسيري عن الصهيونية والعلمنة والتحيز تعتبر نقدا علميا للأسس المعرفية التي انبنى عليه المشروع الصهيوني، بحيث أنه استطاع أن يؤسس نظرية جديدة في التعاطي مع الصهيونية التي اختزلها البعض في الديانة اليهودية كما عند السلفيين والبعض الآخر اختزلها في الامبريالية كما عند طائفة من الحداثيين، فالمشروع الصهيوني- حسب المسيري- أكبر من هذه القراءات المختزلة والمبتسرة القائمة على التحنيط الإيديولوجي الكسول والجبري (= من الجبرية) بدل السلاح المعرفي اللازم .
عبد الوهاب المسيري كان يتحزب أكثر الى ما هو علمي وفكري وثقافي،ولم يكن مزاجه سياسيا بالرغم من انتمائه الى حزب مصري معارض ، بل كان مشدوها الى قضية الإنسان العربي المتمثلة في التجزئة والاستعمار والاستبداد ،ذا ما جعله ينزل الى الشارع المصري ليشارك الشعب في تظاهرات سلمية منددة بالفساد الأخلاقي والسياسي، الشيء الذي بوأه أن يرأس حركة كفاية كأمين عام لها مما جعل بعض محبيه وزملائه يشفقون عليه وهو الذي يعاني من اخطر مرض على أرض البسيطة هو مرض سرطان الدم !! ومع ذلك لم يثنه مرضه ولا سنه المتقدم على أن يبقى في برجه العاجي كما هو وضع أكثر المثقفين في العالم العربي !!
نحتاج الى نسخة مغربية مزيدة ومنقحة من المسيري :
في المغرب لنا أيضا مفكرون لهم مشاريع فكرية كبرى تنم عن جهد معرفي كبير أخذ منهم أوقاتا في البحث والتنقيب والتمحيص مضافا إليها التدريس في الكليات والمعاهد والإشراف على الأطروحات الجامعية والأبحاث المختصة في مراكز مختلفة ، مجهوداتهم هذه جعلتهم يتربعون على عرش الثقافة بالمغرب وأكسبتهم أنصارا وأحبارا ومريدين في المجال الثقافي والبحث العلمي في كافة شؤون الاتجاهات العلمية والإيديولوجية التي يزخر بها المجال التداولي المغربي . غير أن مثقفينا المغاربة حقيقة بدؤوا يفقدون توهجهم في عيون العامة ، وأصبح البعض منا يفقد الثقة في المثقف المغربي الذي فضل أن يبقى مع الخوالف ولا ينفر مع الشعب المغربي الى درجة أن باتت الهوة جد عميقة بين المثقف والجماهير.
المثقف المغربي بالرغم من تعدده شكلا ، أي على مستوى الاهتمام وتباين الميولات والاتجاهات،(معتزلة =
عقلانيون ،وخوارج= معارضون جذريون، وجبرية= استسلاميون ينظرون الى الأمور نظرة الطاعم الكاسي) لا نغامر إذا ما حشرناه جميعا في زاوية الانعزال، فما عاد دورالمثقف المغربي الذي كانه قبل عقدين على أقل تقدير حين كان يلتحم مع الشعب في رؤيته الى قضايا التغيير المنشود في تشابكها وتفاعلها ومحاولة فرز”رأس الخيط” في ليل الاستبداد البهيم.
عقلانيون ،وخوارج= معارضون جذريون، وجبرية= استسلاميون ينظرون الى الأمور نظرة الطاعم الكاسي) لا نغامر إذا ما حشرناه جميعا في زاوية الانعزال، فما عاد دورالمثقف المغربي الذي كانه قبل عقدين على أقل تقدير حين كان يلتحم مع الشعب في رؤيته الى قضايا التغيير المنشود في تشابكها وتفاعلها ومحاولة فرز”رأس الخيط” في ليل الاستبداد البهيم.
المثقف المغربي سواء من امتطى صهوة العقلانية وانحاز للحكمة أو ركب سفينة الشريعة وتشيع للمزج بين النقل والعقل أو من باع نفسه للسلطان بثمن بخس، يبقى غريبا عن شعبه إن لم يشاركه أفراحه وأتراحه ويستعيد دوره الريادي والقيادي في التوجيه و التأطير وقيادة الجماهير الشعبية الغاضبة ويوجه سلوكها في اتجاه عقلاني ومفيد ومجدي بدل أن يتركها ضالة تائهة في صحراء الأفكار الهدامة كيفما كان شكلها ونوعها، ماذا ينتظر المثقف المغربي كالمفكر محمد عابد الجابري وهو المفكر العربي من اصول امازيغية كما يقر في كتابه “حفريات في الذاكرة” وهو يرى بأم عينه صراعا وهميا كامنا بين أمازيغ وعرب ربما يفضي ،لا قدر الله، الى طوائف متقاتلة ؟؟ كيف يهنأ للمثقف المغربي بال مثل الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن وهو يرى شبابا ضاقت به الدنيا بما رحبت فلجأ الى تفجير نفسه في عمليات انقتالية /تفجيرية ؟ ما موقف المثقف المغربي مثل عبد الله العروي من الفراغ السياسي القاتل الذي يشهده المغرب؟ ما هي رؤية المثقف المغربي لأساليب التغيير التي يجب أن نسلكها حتى لا نقع في حمى الصراعات الطاحنة بين مكونات المجتمع والدولة كما حدث في جارتنا الجزائر قبل عقدين من الزمن تقريبا ولا زالت جراحاتها لما تندمل بعد؟ ما هي حقوق المواطن على الدولة و ماهي واجبات الدولة تجاه مواطنيها؟ كيف يمكن أن نخرج من التنظير الى التطبيق في أمور كثيرة ؟
إننا في المغرب لا نفتقر الى مثقف من طينة عبد الوهاب المسيري في علمه وثقافته وجده وإخلاصه لأمته ووطنه ،لكن ما يميز المسيري كمفكر ومثقف هو تواضعه الجم والمعهود الذي شهد به الشعب المصري بكل أحزابه واتجاهاته الفكرية والإيديولوجية وأشفقوا عليه وهو يعاني من مرض عضال ينتظر الموت في أي لحظة ومع ذلك نزل الى الشارع بثقله المعرفي المقاوم مما جعل السلطة في مصر- وهو الحامل لجائزة الدولة التقديرية – أن ترمي به في طريق مهجور مع رفيقة عمره الدكتورة هدى حجازي بعد مشاركته في إحدى التظاهرات مع حركة كفاية ، في مقابل هذا نجد المثقف المغربي منعزلا في برجه العاجي قلبه مع الحسين وسيفه مع اليزيد .
نقولها وبصراحة : إننا، في المغرب، في أمس الحاجة الى نسخة مغربية مزيدة ومنقحة من المفكر العربي عبد الوهاب المسيري رحمه الله !!
هلا وصلـــــــت الرسالة .
كاتب صحافي من المغرب