شكلت المواجهة العسكرية بين القوات الروسية والجيش الجورجي المدعوم عسكرياً ومادياً ولوجستياً من الحلفاء الاستراتيجيين له والمتمثل في كل من “الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل” عنصر قوة داعم لجمهورية فقيرة ونظام حكم هش، ولجيش بسيط الإمكانات، والذي يقدر عناصره نحو 32 ألف جندي و200 دبابة ومدرعة و109 قطع مدفعية، و18 مقاتلة جوية، و37طوافة، أمام جيش جرار خاض حروباً عدة، وله تجارب عسكرية تاريخية، لا سيما في حرب العصابات مع أقاليم الاتحاد السوفيتي سابقاً ومع المقاتلين في أفغانستان،إذ يبلغ تعداده تقريباً 400 ألف جندي وعدد آلياته تصل إلى 33 ألف دبابة و ناقلة جند مدرعة ، و26000 قطع مدفعية و1809 مقاتلات جوية وطوافات 1932، وتعود هذه القوة العسكرية العملاقة لروسيا باعتبارها وريثة الاتحاد السوفيتي سابقاً، حيث شكلت هذه المواجهة تساؤلات للساسة نتيجة الفراغ السياسي الذي تشهده المنطقة أمام المد الأمريكي أحادي القطبية الذي يسعى للهيمنة على العالم، خاصة مصادر الطاقة. لذلك لا نفاجئ كثيراً من طبيعة الرد الروسي والمخطط له بهجوم وشيك كاسح بري للدبابات الروسية بدأتها الأخيرة باستهداف المطارات قرب تبليسي والقطع البحرية الصغيرة للقوات الجورجية المتواجدة في البحر الأسود ليسحق هذا التهديد الخطير للأمن الروسي، وليكون في نفس اللحظة عبرة لكل من تسول له نفسه مناطحة الدب الروسي.
وهذا ما لمسناه من تحركات عاجلة سواء باستدعاء القوات الجورجية العائدة من العراق وقوامها ألف جندي جوا لتعزيز القوات الجورجية الضعيفة في المعارك التي يخوضها في أوسيتيا الجنوبية، فكان من ديك تشيني إلا أن يتصل بالرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي ليعرب له عن تضامن الولايات المتحدة بالكلمة في الصراع ضد روسيا وابلغه أن”العدوان الروسي يجب ألا يمر دون رد، باعتباره تهديد لسيادة جورجيا ووحدة أراضيها.
إسرائيل كعادتها تراقب الأحداث من اجل توظيفها وإدارتها لخدمة مصالحها ، لذلك سارعت بتداول التصريحات لتعبر عن قلقها وتحمل الأطراف من المساس برعاياها وأخذت تدعو رعاياها اليهود للنزوح ومغادرة الإقليم، لذلك قد نكون نحن في فلسطين المحتلة على أعتاب هجرة لأكثر من عشرة الآف يهودي في القريب، بحجة تعرض اليهود للاضطهاد وجرائم إبادة في جورجيا. فالحرب تجري هناك باستخدام تقنيات عسكرية دقيقة لحسم الصراع، لذلك عمدت روسيا على نشر وتعزيز قواتها في إقليم أبخازيا الانفصالية وعلى البحر الأسود لقطع الطريق أمام دخول المساعدات الخارجية لجورجيا، والتي تزامنت أيضاً مع تصريحات بوتين الذي وصف الهجوم الجورجي على تسخينفالي عاصمة أوسيتيا ب”المغامرة الجورجية القذرة، ودعوته لقواته بشن عملية عسكرية واسعة ترغم الطرف الجورجي على الرضوخ والسلام .
هناك دولاً بلا شك خاسرة ورابحة دائماً من كل حرب، أما المستفيد التي جاءت له في وقتها لا سيما لصالح دول إقليم الشرق الأوسط منه، وعلى وجه الخصوص إيران صاحبة “البرنامج النووي” الذي يقض مضاجع الإسرائيليين وحليفتها “الولايات المتحدة”، لذلك تسعى إيران لإبراز المجد السوفيتي والمتمثل في روسيا الحالية لخلق التوازن الثنائي القطبية، وفي نفس الوقت من اجل كسب المعرفة والحصول على تكنولوجيا الصواريخ المضادة للطائرات من نوع “اس-300 ” وغيرها، التي تشكل عنصر دفاعي رادع لأي هجوم جوي يخترق الأجواء الإيرانية يستهدف المنشآت النووية، ويأتي هذا الدعم المتوقع رداً على المساعدات العسكرية الأمريكية الإسرائيلية الملحوظة لجورجيا، لتكون هذه الأحداث عامل إسعاف، في لحظة تسعى أمريكا والغرب لفرض عقوبات اقتصادية جديدة على إيران، فروسيا تبعث رسالة جوهرية في هذه الحرب الخاطفة رسالة مفادها أنها أولاً قوية وستقف أمام نفوذ واشنطن في القوقاز، وثانياً أنها لن تسمح بتكرار تجربة دعم الغرب وأمريكا لجورجيا على غرار ما حدث من استقلال كوسوفو، وهي رسالة واضحة للرفض الروسي للمد العسكري لحلف الناتو في القوقاز، الذي يسعى الحلف لنشر منظومته الصاروخية التي تشرف عليها الولايات المتحدة، وقد حث على أهميتها الرئيس الأمريكي جورج بوش، ليصبح الناتو على حدود ومشارف جمهورية روسيا التي تعتبره الأخيرة تهديداً مباشراً لأمنها القومي، وتهديد أخر لإيران التي ستتلقى ضربة قاضية لمنشئاتها النووية في حال تعرضها لهجوم من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل بمشاركة حلف الناتو، بعد تأميم ” الجبهات” ومحاصرتها على عدة محاور محيطة بها تكون مرتعاً لقوات الحلف الأمريكي “الناتو” مثل “العراق وأفغانستان ومياه الخليج ودوله، بالإضافة إلى الأخيرة جورجيا وأقاليم الاتحاد سابقا أبخازيا المسلمة وأوسيتيا الجنوبية ذات الأغلبية السكانية الروسية اللتان تتمتعان بحكم ذاتي مدعوم من روسيا، لما لهما من مكانة إستراتيجية على البحر الأسود وجنوب القوقاز، وسعيهم للانضمام للناتو بعد استقلالهما من جانب واحد، بالإضافة إلى مساعي كل من أوكرانيا وجورجيا للانضمام للناتو.
لذلك الورقة الرابحة هذه المرة في يد روسيا الدولة النووية التي تمتلك أكبر مخزون استراتجي من الطاقة وتصدير الغاز وتتحكم به، بالإضافة إلى ترسانتها العسكرية الضخمة، وهناك عامل مؤثر يلعقه مرارته الغرب حتى اللحظة، وهو غرقه في مستنقعات الإقليم الدموية أهمها أفغانستان و العراق،
لذلك سارعت واشنطن أن يكون الحل عبر القنوات السلمية والتي جاءت بضرورة إرسال مبعوثاً لها، وإعلانها السريع أن قواتها المتواجدة في جورجيا هي محايدة وليست طرفا في النزاع.
لذلك سارعت واشنطن أن يكون الحل عبر القنوات السلمية والتي جاءت بضرورة إرسال مبعوثاً لها، وإعلانها السريع أن قواتها المتواجدة في جورجيا هي محايدة وليست طرفا في النزاع.
كاتب وباحث