وكأنما ظَلّ الشتات قدره منذ هُجّر من قريته الوادعة “البروة” حتى لفّ الغياب روحه في غياهب هيوستن الأميركية.. وما بين المحطتين، كانت رحلته التي تلقّفها التهجير واللجوء تارة، والإبعاد والاعتقال تارة أخرى.. فيما بقيت الثورة والحب والألم والأمل أهم مفرداتها وملامحها.
ليلة أول من أمس، تأبط محبّو درويش أطياف صورته التي حفظوها في آخر حفل توقيع ديوان له في عمّان.. بتلك الملابس السوداء، وتلك الصحة المتعبة التي لم تمهل قلب شاعرهم حتى يوقّع كتاباً آخر بعد “أثر الفراشة”..
تأبطوا دواوينه التي صارت “في حضرة الغياب”، معاتبين إياه بقول “لماذا تركت الحصان وحيداً؟”. وموصيين ياه ب “لا تعتذر عمّا فعلت”، ومدندنين في ظلمة ليل واقعهم “عاشق من فلسطين” و”كزهر اللوز أو أبعد”،
ومستحضرين الموت على صدى أبياته “العصافير تموت في الجليل”.
“منذ وعيت على الدنيا وأنا أرى دموع أمي تنهمر بمجرد سماع شعر ذلك الرجل.. ظل الشوق يحذوني حتى كبرت وأعدت نفس شريط الذكريات، إذ أبكي كلما سمعت شعراً له تماماً كما أمي”، تقول مرام يوسف (26 عاماً).
تدمع بينما تكمل “لا يملك درويش كاريزما عالية فحسب، بل هو يذوّبك عشقاً في شعره الذي يصهر فيه كالساحر الثورة بالحب بالغضب بالنقد بالمديح بالمصارحة”.
والدة مرام تنعى درويش هي الأخرى، بينما دموعها تملأ مقلتيها كما صوتها بعد سويعات من سماع خبر وفاته.. تتساءل “كيف لا نحزن على محمود وهو واحد منا؟ عاش ما عشناه جميعاً من نكبة وتهجير ونكسة ولجوء وإحباطات متتالية؟”.
تكمل بينما ترمقه بألم على شاشة التلفاز “رموز القضية هؤلاء يكتسبون أهمية خاصة، إذ هم شهود العيان الذين خلدوا بداية مأساتنا شعراً ونثراً ورسماً.. غيابهم يعني الكثير.. ناجي العلي، غسان كنفاني، إسماعيل شموط وغيرهم كثر.. ليس آخرهم بكل تأكيد درويش”.
من دموع مرام ووالدتها إلى ذكريات العشريني نادر محسن في توقيع “أثر الفراشة” الذي كان الحفل الأخير لدرويش، يقول بينما ترتسم على محياه ابتسامة رغم صدمته بخبر الوفاة “لقد خضت مشاجرة حامية في حفله الأخير. كان هنالك ازدحام شديد، بيد أنني لم أستطع سماع صوته وهو يقرأ الشعر من غير أن أخترق الصفوف كلها كي أراه وجهاً لوجه. إنه يعني لي الكثير.. أكثر مما تتخيلين”.
تطل مسحة الحزن على ملامح نادر، بينما يُخرج “موبايله” لرؤية تلك اللقطات التي سجلها لدرويش بعد أن تمكن من الوصول إليه يومها.. يقول بعد أن كرر تلك اللقطات مراراً “محمود درويش ما بموت..”
على الصعيد الآخر، يقول علاء محمد (47 عاماً) “من فرط إعجابي بشعر درويش كنت أتجنب مقابلته وجهاً لوجه رغم أن الفرصة كانت سانحة مراراً، إلا أنني وددت أن تبقى صورته كما هي في خيالي.. فليس درويش من أحتمل خدشاً في شاعريته”.
ذات الأمر يشير إليه الأكاديمي الخمسيني الذي فضل عدم ذكر اسمه، إذ يقول “رغم تحفظي على محمود درويش كشخصية، إلا أنه ليس بوسعي إلا الاعتراف بموهبته الشعرية الفذة.. محمود استطاع برغم قسوة قلبه التي يتحدث عنها مقربون منه استطاع أن يجمع بينها وبين رهافة الحس الشعري والوطني”.
تستشيط ربا سلامة (32 عاماً) غضباً عندما تسمع عن درويش تلك الكلمات، قائلة “كلما كان يستعرّ الجدل حول درويش وشعره كنت أتعلق برمزيته أكثر فأكثر.. شيء وحيد لا يمكن لأحبّاء وأعداء درويش الاختلاف عليه: حبه وهوسه بفلسطين ذاتها بغض النظر عن منهج النضال الذي يرتأيه ملائماً للمرحلة”.
تكمل بلوعة “لا عجب من قلب درويش إذا أُنهِك.. إذ كان مطلوباً من هذا القلب الرؤوم احتمال آلام الذكريات الفلسطينية العصبية من تقتيل وتهجير ولجوء ونكسات ونكبات.. إلى جانب احتمال الواقع اليومي الأشد قساوة.. يكفيه رؤية الاقتتال الفلسطيني – الفلسطيني. هذا الأمر لوحده كفيل بتدمير كل الصورة الشاعرية التي رسمها لنفسه ولنا عن الوطن”.
بنبرة الفجيعة تزيد “بل إني أعجب من قلبه كيف احتمل كل تلك الآلام التي عايشها لحظة بلحظة.. سبعة وستون عاماً من الجرح المتواصل وقلبه ينزف”.
تجهش ربا في بكاء مرير بينما تقول “كلما هاجت بي الأشواق لبلادي التي لم أرها كنت أستحضر صورة المخيمات الفلسطينية، بينما أستمع لشعر درويش الذي كان يحلق بي هناك على جبال حيفا والكرمل”…
بصوت يتهدج ألماً وبكاء.. تستذكر ربا كيف كانت تتيه فخراً كلما سمعت قصيدة “أيها المارّون”، التي عُقدت على إثرها جلسة طارئة في الكنيست الإسرائيلي لمناقشة آثارها، ما دفع جولدا مائير للتصريح مراراً بأن شعره يسبب لها الغضب.
تدمع ربا مجدداً بينما تترنم بأبيات “أيها المارّون” التي تحفظها عن ظهر قلب، وتحملها ك “أيقونة” في قلبها أينما حلت:
“أيها المارون بين الكلمات العابرة”
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسرقوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صورة كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف.. ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار.. ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى.. ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز.. ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتك
م من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا
وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا، نحن، أن نحيا نحن كما نشاء”.”