عندما يتصرف صانع القرار وكأنه يعرف كل شيء تبدأ البلاد بالاهتزاز وتدخل دوامة أحداث لا نهاية لها، تلك هي إشكاليته طيلة ثلاث عقود من الحكم ، الذي لم تستقر معه البلاد رغم وجود ممكنات ذلك. فالبرغم من تبديد الثروة واستنفاد مواردها في شراء الو لاءات ، لضمان استمرار يته ، إلا أن ذلك لم يجدي أبدا، فقد اعتاد على السير واتخاذ القرار منفردا دون الإحساس بخطورة ما يقدم عليه ، أو يمارسه، ولذلك لم تستطع البلاد الخروج من دوامة الأزمات المتلاحقة ، والتخلف المقيم، فصانع القرار اليمني أجاد ضبط إيقاع التناقضات المتوالدة من رغبته الجامحة في البقاء فترة أطول ، وتوريث الحكم من بعده ، لكن التناقضات تنامت واستمرت ، وبالتالي بدأت في اتساعها تصل إلى ما هو أبعد من مجرد بقاءه ، أو نقل ميراثه الملغوم بالصراعات الحادة ، فحالة الخواء في السلوك السياسي لم تفرز ضمانات استمرار البلاد موحدة بدليل ما يعتمل في الجنوب ويتنامى من غضب يومي ، والديمقراطية التي شكلنها وجعل منها مجرد ديكور زائف يخفي سلبياته، ويلتف على إرادة الشعب من خلالها، ولم تنتج خلافا أو تصارعا متعقلا ، بقدر ما أنتجت خلافا جارحا، ذلك أن الوعي بالديمقراطية لم يصل إلى حد الإيمان بها كقناعة وثقافة ، من خلال توطين وعي حقيقي في تفكير وسلوك ووجدان الشعب، لأن الديمقراطية في ظل وجود نظام سياسي مستبد ، تتحول الى وجود شكلي منزوع الجوهر ومصاغ ، عمليا وفق إرادة بقاءه، وبمدى تجذ يرها لوجوده، وإنتاجه المستمر ، وديمومة تمتين الولاء له ولمن بعده.
والمعارضة اليمنية ملغومة بذاكرة الصراع الماضوي التآمري، وزائفة ، وديكورا آخر، ووجها قبيحا أفرزته الديمقراطية الشكلية ، فهي معارضة محكومة بوعي قيادات انتهازية مسكونة بذاتها، وعشق مصالحها ونفوذها، وهي قيادات لا تحترم مبادئ أحزابها، التي تنادي بها ، كما إنها لا تحترم قواعدها ، ولا تسعى إلى تحقيق تطلعاتهم، فقواعدها مسحوقة بالفقر والفاقة والحرمان ، ومع ذلك فهي تلعب مع السلطة لعبة المساومة والتنازلات مقابل تحقيق نفوذ ضامن لمصالحها العريضة التي جاءت كنتيجة فيد وغنيمة رتبتها حرب صيف 1994م ، ما يؤكد ذلك أن أكبر حزب سياسي يمارس قياديوه الانتهازية بشكل فاضح ومعتاد ، وبأساليب لم تعد تقنع طفل شريد في ليل الشتات على أرصفة البؤس يتضور جوعا ، ويساومون السلطة لقاء صفقات باسم الوطن الذي اختزلوه في ذواتهم ومصالحهم ومناطقهم الجغرافية ، فقد برهنت هذه القيادات عمليا أنها عصبوية، أنانية، ضيقة الرؤية وعديمة الإحساس بالناس، تكدس الثروة ، وتبني مجدها على حساب الملايين الجائعة ، وتفتي بشرعية الدجالين وصناع الحروب وحقوق السلب والمصادرة والإقصاء، والنهب والإفساد ، لم يعد بالإمكان القول أن هناك ديمقراطية وهناك دولة ومعارضة ، أو قانون ودستور، إنها فوضى وكفى ، هذا ما أقل ما يمكن أن يطلق على وضعنا ، ليس ثمة نخب يمكن أن يعتمد عليها أو أحزاب قادرة على إثبات أنها فعلا منحازة للشعب وهمومه ، الوطن تحول إلى عنبر مجانين ، وسوق نخاسة ، وسماسرة دم ،وقضايا ، وباعة أحلام وأوهام وفراديس متخيلة، ترسمها وعود قيادات المعارضة على منابر الكلام والضجيج المستدام، هؤلاء الذين تحولوا إلى ممثلين على خشبة مسرح هذه الفوضى العارمة .
*صحفي يمني