علي عبيدات
لا زال خبز أمك ساخنا هناك في الجليل يا سيدي، رغوة القهوة لم تُزلها كبريات العواصف، هي كما تحبها أنت، حامية الطبع دوما، قلي من سيمنع دمع أمي اليوم، وأمهات كثر ممن أعلنت حربك على الموت خجلا من دموعهن.رحلت قبل أن تنسج لنا قصيدة النصر، قبل أن تُعلق الجدارية التي خططتها على أسوار القدس، التي كانت تبتسمُ كلما غازلتها، وتومئ رأسها موافقةً كلما انتقدت من نصبوا أنفسهم قادة عليها، ومن ارتكبوا أبشع جرم في التاريخ حاملين راية تحريرها.حصانك سار طويلا يا سيدي، كانت وجهتك واضحة، اعتنق البطولة منذ الولادة، كان رحيله باكرا، قبل أن تجتاز به جدار الفصل، قبل أن نجد وإياه لقضية العقود الطوال حلا، رحل وكم كنا نتمنى أن تكون قيلولته الأخيرة بجوار سورٍ على بعد أمتار من مسرى.بالأمس أعلنا سقوط القلم، من سيحمل لواء الثورة بعدك يا سيدي، من سيخط لنا أحرفا من نور، نهتدي بها وسط الظلام الحالك، من سيكتب للبندقية، ريتا اليوم أضحت حزينة، من سيقنعنا بعد اليوم أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.علم الألوان الأربعة الذي تيمنا بعشقه، سقط أشرفنا وهم يحملونه، بات شاحبا جدا، حزينا جدا، وأيدٍ لرجال فاضت عيونهم دمعا لفراقك، تلملمه وتنكسه، فهذا العلم الذي تغنينا معك به طويلا، عشنا لأجل أن يرفع عاليا، لم يكن يعلمُ أنه سينكس لفراقك.غلف السواد جريدتك، التي اعتدنا أن تتزين بحروفك، من سيحملها بعد اليوم، ومن سيجعلها تتذوق رحيق القهوة كل صباح في يديك، لا نتخيل روعة للجريدة بدونك، حتى رائحة القهوة لم تعد كما عهدناها، وكأنها باتت عابسة اليوم لفراقك.حتى طابعي البريدي الذي أُصدر ليحمل صورتك، لم أفرح به كثيرا، كم شعرت بسعادة عارمة وأنا احتفظ به معي، حينها شعرت بالفخر لأننا قوم كسرنا القاعدة، وها نحن اليوم نكرم عظمائنا أحياءً قبل أن يرحلوا، لم أكن أعلم أن صورتك على طابع البريد، ستكون آخر تكريم لك في حياتك.لتصبح على وطن يا سيدي، ألم تقل لنا أن نناجي الشهداء، عندما يذهبون إلى النوم، ونقول لهم تصبحون على وطن، إنهم هناك الآن، في حياة أخرى، ينتظرونك لتنشد لهم، وتخط لهم حروفا جديدة، كي تغفوا أعينهم مكحلة بشموخ هامتك، وتطرب آذانهم على موسيقى روحية بعثها الله على لسانك، لتصبحوا معا على وطن.كيف سنقضي اليوم يا سيدي، دون أن نفكر في جديدك، ففي كل يوم في كل صباح، كنا نقلب الجريدة التي عشقتها، بحثا عن نص جديد، عن حلم جديد، عن ولادة جديدة، تحمل بصماتك، وتنقل لنا أنفاسك.سقط القلم، وجف الحبر فماذا سنكتب في رحيل القديس، الذي رسم إمبراطورية الوطن بشعره، وبنا للشعر دولة، وحلمنا معه بها، على أمل أن يخط هو بذاته قصيدة ولادتها، ونسمعه هو بذاته بصوته الذي اخترق العواصم، ينشدها في عاصمتنا دون حسي ورقيب.من للثكلى اليوم، فكلنا ثكلى، من سيعزي من، شعب يعزي قضية، وقضية حملت مع درويش إلى كل أصقاع العالم تمني النفس بطول بقاء للشعب، كلنا محزونون لفراقك، فكلنا جزء منك، وأنت جزء من كلٍ منا.رحلت دون أن تعلق الجرس، وتعلن النصر، وتفاخر بالوحدة المفقودة، حتى أن آخر كلماتك كانت هجاءً، لمن استقل بجزء من الوطن لوحده، رحلت ألما، واخترت أن لا تشاهد المقاصل تنصب هناك، غيبت نفسك عن المشهد لبشاعته، ربما تعبت من هجاء من لم نجد لهم بعدُ من تسمية.سنعلق جرس النصر يا قديس، سننشد قصائدك الثورية في باحات العاصمة، رحلت جسدا اليوم، لكنك ستخلد باقٍ فينا، مع كل حرف ينطق، ومع كل هتاف يطلق، ومع كل بيت شعرٍ يخلق، فحتى لو رحل صوتك، فملايين الحناجر باقية لتنشد شعرك.