عندما بدأ قلبه ينبض ببطء وطالعتنا الأخبار ببدء الوداع اختلط في الذهن وفي الروح صورة فلسطين وصوتها لتعيدنا الذاكرة لبواكير الثورة وأغنياتها المجلجلة ولترتسم في المخيلة صور أؤلئك العاشقين لتراب وطنهم يعطرون سجون الغاصب لتستقبل بالفرح وآمال العودة أبطال الثورة ، أسرانا الذين أذاقوا العدو طعم الألم الذي تجرعناه كؤوساً مترعة عام ثمان وأربعين.
كان الراحل الكبير من بين هؤلاء العاشقين وكان أجملهم حساً وتعبيراً وأقدرهم على تلمس الصلة الوثيقة بين كفاح شعبه وكل قضية العدل والمساواة على سطح الكرة الأرضية.
عندما تتراءى صورة محمود درويش في الذهن تطل علينا زهور مرج ابن عامر وبيارات يافا وحدائق حيفا ورمال غزة وزهر الحنون وعبق الياسمين … انه عطر فلسطين المميز وروحها الوثابة نحو الانعتاق والحرية. هو حبيب الملايين من عشاق الكلمة الصادقة، رسالتنا لعالم أوغل في لحم شعبنا ودمه فرق عند سماع شعره وتعابيره، فهم كيف يعانق كل شيء في وطنه ويجعل من كلمة فلسطين تعويذة الناس وضميرهم في كل مكان.
عندما يبكي تبكي معه الجماهير وتصفق، وعندما يفرح ويزغرد تهتف له الناس وتدمع عيونها تأثراً بهذا الحالم دوماً بعروس تشبه وطنه. كان يضم بين ثنايا كلماته وطناً فارقه مرغماً كما يضم عشيقته ومحبوبته التي لا حياة بغير حضنها الدافىء والجميل، وعندما كان يدعى لحفل أو ندوة في أرض الوطن كان يلبي غير آبه بكل الكلام المنمق عن الممانعة والمقاطعة وعدم التطبيع، كان يعرف أن ما سيقوله سيكون أشد وقعاً وأكبر تأثيراً من كل الخطب السياسية والكلمات الطنانة.
لم يحتج بني صهيون على قصيدة شاعر غيره، فحين كتب قصيدة عابرون في كلام عابر وأنهاها بكلمة ” ارحلوا ” كان بذلك يرد على أوسلو ونتائجه المدمرة ويقدم لشعبه أفضل نتيجة لنهاية غاصب ليس له في وطننا “خرم إبرة” كما يقال.
محمود درويش الزاهد في المناصب والمواقع بعد أن جربها وفهم تعارضها مع موقعه في قلب وطنه ورسالته للعالم بعد أن حاز مكانته الرفيعة بين أهله وبني قومه.
درويش الذي تستقبله الناس من كل الأعمار شيباً وشباباً وتجلس في انتظار سماعه ساعات طويلة وتعشقه الصبايا وحبات التراب الذي غنى له عشقاً وصبابة، يرحل وحيداً في أحد مشافي أمريكا بعد أن زهد في أجهزة الحياة الاصطناعية فألقى بها بعيداً ورفع ذراعيه مستقبلاً قلوباً هفت لتعطيه أعظم ما فيها، نبض الحياة وحبها السرمدي.
يا سيدي تغيب ونحن أحوج ما نكون إليك ككل العظام الذين سبقوك، بكيتهم ورثيتهم وها نحن نبكيك ونرثيك ولمثلك والله تكتب المراثي ويذرف الدمع السخين، وتزف كما أردت لوطن قدم الشهداء والشعراء والمفكرين، وقدم المثل والنموذج الذي استقيت منه ونهلت فعمدت رسولنا لكل صاحب ضمير ولكل قضية عادلة تصدح من أجلها.
نحاول أن نوفيك بعد رحيلك فلا نجد في قواميس اللغة ما يعطيك بعض ما أعطيت وأوفيت، ولا يكفي مقال وألف قصيدة لرثائك وللتعبير عن حجم خسارتنا فيك لكننا نحاول فنكسب شرف وداعك ببعض الكلمات تخرج من صميم القلب لصاحب أعظم قلب ضم فلسطين بين جوانحه.
كتب شاعرنا عن المطر والشجر، وكتب عن الحب والغضب والصبر، كما كتب وغنى لمن أعطاه عمره ونبض قلبه الذي استكان أخيراً ليقدم ذلك الهدوء وتلك الطمأنينة التي نشرها شعراً ونثراً في ربوع وطنه وفي شغاف القلوب التي تبكيه الآن وتشتاق لتعويذاته، وعلى هضاب فلسطين وبين سهولها ووديانها تجيبك أصداء نغم حزين يردد تلك القصائد والأشعار التي غناها راحلنا الحبيب. لم تكن أعوامه السبعة والستين كافية لتعطينا كل ما يملكه الرجل ولا كان لمثلها تضاف إليه قادرة على استبطان ذلك العمق في المعنى وربما في المبنى لعطاء مدهش ومثير للقلق كما الثورة والغضب والحب وكل ما يمكن أن تصدره النفس البشرية.
كانت ولادته في فلسطين عام 1941 بقرية اسمها البروة ولم يغادر فلسطين حتى عام 1972 حين ذهب إلى مصر بسبب الضغوط الصهيونية التي مورست عليه واعتقاله أكثر من مرة منذ عام1962، كما فرضت عليه الإقامة الجبرية لفترات طويلة بسبب نشاطه السياسي وتحريضه على الثورة ضد النظام العنصري في الكيان الصهيوني، وقد انتسب الراحل الكبير للحزب الشيوعي وأصبح مدير تحرير صحيفته المركزية الاتحاد وقدم في بواكير أعماله رؤيته الإنسانية الثورية لقضية شعبه المظلوم، كما عمل لاحقاً في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية الثقافية وعضواً في لجنتها التنفيذية حتى استقالته منها احتجاجاً على اتفاق أوسلو المشئوم.
لمحمود درويش م
ئات القصائد والعديد من الدواوين فمنذ بلغ التاسعة عشر من عمره كان يكتب شعراً يحمل سمات كبار الشعراء وفحولهم، وقد كتب للثورة واستخدم الرموز في أشعاره بسلاسة وبدون تهويم أو تعقيد، حملت كلماته وقصائده هم الشعب الفلسطيني وآماله في العودة ونيل حقوقه كما حمل هموم البسطاء والفقراء من الناس فتوحدت عنده قلوب العرب أجمعين.
كرم راحلنا الكبير في أكثر من بلد عربي وأجنبي كما حصل على جوائز عديدة ومن بلدان ومنظمات متنوعة ومختلفة المشارب والأهواء وهو ما يشير لتنوع هذا الشاعر وعطائه الإنساني.
هل نتذكر مع رحيله ” أوراق الزيتون ” أم ” شيء عن الوطن ” أم ” لا تعتذر عما فعلت ” أم ” مديح الظل العالي ” أم ” عاشق من فلسطين ” أم ” حبيبتي تنهض من نومها ” أم ” يوميات جرح فلسطيني ” أم ” العصافير تموت في الجليل ” أم ” لماذا تركت الحصان وحيداً ” أم ألف قصة وحكاية عن عشق الوطن والأهل، أو نتذكر نضاله السلمي وسط أشقائه من أجل ثورة تنتمي حقاً لكل نبل فلسطين وطيبة أهلها.
فلسطين التي فقدت اليوم ابنها الأقرب لقلبها ولحبل الوريد في أرواحنا وحدقات عيوننا هذه الحبيبة فلسطين ستبكي ابنها البار وحبيبها الذي ما غنى شاعر لمحبوبته قدر غنائه لها.
هو عذب الكلمات، ربابة فلسطين وأجمل موسيقاها، طفلها المدلل ومؤلف القلوب والعقول من حولها.
أيها الراحل عنا سيرثيك الكثير من بني وطنك وقومك، سيبكيك الفلسطيني والسوري والمصري ومن أقصى الوطن إلى أقصى الروح سيبكيك العاشقون والأسرى وسيستقبلك الشهداء بكل الحب الذي أعطيته لهم وقد وفيت كما أوفوا فلك الرحمة وجنان الخلد ولشعبك الحزين على فراقك دعوات الصبر وأمنيات الوحدة والتئام الشمل، وستبقى بين الضلوع تقيم ما أقام الناس ومن سمعوك وقرأوك… ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
زياد ابوشاويش