محمد بيضا
كنت قبل عقد من الزمن على أبواب التخرج من الجامعة، فطالبوني برسالة تخرج فريدة ومميزة، فلم أجد في ذاكرتي سوى التجربة الصحافية التي خاضها أخي وشاعري وقائدي محمود درويش، فأحصيت جل ما خطه أبي خلال تجربته الشيوعية في الوطن، إلى التحاقه بالثورة، فكانت النتيجة مذهلة للجميع، فقرر الإخوة التونسيون منحي الامتياز وتوصية بالنشر لندرة وأهمية الدراسة.
لم يكن درويش شاعرا ناسكا في محراب الآلهة الوطن، بل كان صحافيا خطيرا، وضعه الكيان الغاصب تحت المجهر إلى آخر أنفاسه، كان رجل موقف، وموقف رجولة، لكن لغة الكلام التي انصاعت لأمره كانت دوما تتنفس الصعداء من جبروت وعيه.
لم يكن درويش سوى رجل من فلسطين، عادي كأي صخرة أو شجرة فيها، لكنه كان أكثرنا عشقا وأصدقنا قولا في الحب والوطن والنصر(الذي لم يكن كما أردنا).
كان درويش إلها كنعانيا عاريا من كل أوراق التوت الحزبية والبلطجية، كان رقيقا كالندى، ومهذبا كرذاذ المطر، خجولا إذا مازحته خارج حدود اللياقة، لئيما إذا ما راودته عن أحلامه الكونية، مطواعا إذا ما ناصرته على أعداء الله والمكان.
درويش هو الوجه الشعري والواجهة والوجهة الوحيدة إلى فلسطين، ولم يكن سرا أن يكرمه الحلفاء والأصدقاء وأن يحترمه الأعداء.
كنت أذهب إلى ضاحية “المرسى” في تونس لأرى كيف يحتسي القهوة ويدخن برفقة أحدهم، ولطالما حاولت الكتابة بأسلوبه لكن عبثا أحاول، فهمتي أصغر بقرون من همته، وقامتي النثرية كالعشب أمام السنديان، لكنني لم أكرهه، بل أحببته مع كل أمسية أو قصيدة كانت تتطاير من عينيه.
درويش مات ولم تمت حيفا.. بعينيها تقاتل
درويش فينا ما دامت السنونوة قادرة على الطيران من الشاطئ إلى القلب، وما دمنا قادرين على الفرح والغزل والبكاء في أحضان الذاكرة، فالموت عبور الخالدين إلى الأبدية في عرسهم الذي لا ينتهي.
يرحل العظماء باكرا، مثل الربيع، ويبقى الجبناء جيفة وقيحا لنتذكر أن هذه الأرض ليست للخالدين.