” من يكب حكايته يرث أرض الكلام ويملك المعنى تماما “
محمود درويش[1]
كتب الناقد توفيق بكر عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي رحل يوم 09-08-2008 عن سن تناهز السبع والستين ما يلي:”اسمان في الشعر مترادفان درويش وفلسطين وصورتان توأمان من حقيقة واحدة ان حدثك عن نفسه فعن أرضه يحكي وان قصها لك فقصته يروي أولها العشق وللعشق كان في التيه الموت والفداء ومع كل شهيد تنبعث الحياة من الدماء ويتجدد الهوى”[2].
ولم يترك لنا هول الفاجعة وحجم المصيبة الوقت الكافي والتركيز الضروري لتقييم سيرة ذاتية مليئة بالكفاح والتحزب والتمرد والهجرة والانشداد إلى الأصول والتعلق بأرض المولد والحافلة بالشعر والسياسة والنقد والمداهمة بالمؤامرات والمكائد والتراجعات والاستقالات مثل سيرة ابن مدينة عكا شاعر فلسطين الأبرز وحامل هم القضية لأكثر من أربعين سنة بين دفاتر أشعاره ولكن حبنا الكبير له واحترامنا وتقديرنا لما أثثه من جدل داخل الفضاءات الثقافية العربية ولما حفزه من همم وسواعد يجعلنا نقبل على التعزية والتعبير عن الحزن والأسى لفقدان العرب هذا الهرم الشعري دون تردد.
ارتبط اسم درويش بأسماء شعراء فلسطينيين كبار مثل معين بسيسو وسميح القاسم وأحمد مطر وبالمطرب اللبناني الملتزم مارسيل خليفة الذي حول جزء كبير من قصائده إلى ألحان وأغاني رائعة وتمركزت تجربته الشعرية حول مجلة الكرمل التي تخصصت في شعر المقاومة والأدب الملتزم ولعل
أول ما نتذكر من درويش عروبته وآخر ما يتكلم فيه قبل أن يسلم نفسه إلى المنام هي عروبته وآيتنا في ذلك نصه بطاقة هوية الذي سجل فيه سجيته ودون بواسطته ثورته:
سجل أنا عربي
ولون الشعر…فحمي
ولون العين..بني
وميزاتي على رأسي عقال فوق كوفية
وكفي صلبة كالصخر
تخمش من يلامسها
وعنواني:
أنا من قرية عزلاء..منسيه
شوارعها بلا أسماء
وكل رجالها..في الحقل والمحجر
فهل تغضب؟
ما خطب درويش يرحل في عز النهار دون أن يستأذن ودون أن يترك وصيته، ما دره يستسلم للمرض وهو الذي قهر الحصار وتغلب على العار وضرب في الكون شرقا وغربا وينتصر على الروح الثقيل، ما باله يغادر أسطورة قداسه ويدفن قلمه وكراسه،ألم تسرق منه لحظة الميلاد كما حدثنا في بطاقة هويته ولبس ثوب العيش دون أن يستشر في قصيدته جواز السفر فلماذا يسرق هو مرة ثانية ويخطفها التيار الهابط نحو الليس ويطبق عليه الدهر حد الغياب، ربما يكون الوجود هو الذي صرف عنه منحة العمر وعجل بنفائسه إلى خارج هذه الزمانية الرديئة.
هوية درويش العربية وانتمائه للشرق لا يتناقض مع إيمانه بالحداثة والقيم الكونية الإنسانية فهو فلسطيني إلى حد النخاع ولكنه أممي يؤمن بالطبقة العاملة والطفل والمرأة والكائن الحي دون تمييز لنر ما ينشد حول هذا الموضوع:
عار من الاسم، من الانتماء؟
في تربة ربيتها باليدين؟
أيوب صاح اليوم ملء السماء:
لا تجعلوني عبرة مرتين
يا سادتي الأنبياء
لا تسألوا الأشجار عن اسمها
لا تسألوا الوديان عن أمها
من جبهتي ينشق سيف الضياء
ومن يدي ينبع ماء النهر
كل قلوب الناس..جنسيتي
فلتسقطوا عني جواز السفر
سوف يظل درويش نبي الرفض الأكبر وفلاح الكتابة الأرضية بامتياز وزارع الليلك والأقحوان في قلوب المدافعين عن العرض انظروا ماذا يقول عن سمائه المحايثة للطين الذي يضع عليه قدميه:
آه يا جرحي المكابر
أنا لست بمسافر
وطني ليس حقيبة
والأرض هي الحبيبة
ألم يقولوا عنه انه شيوعي يساري وما قدروا أن ينكسوا أعلام قضيته الفلسطينية التي تزوجها والرايات الثورية التي رفعها عاليا من خلال القصائد وما استطاعوا أن يفصلوه عن محيطه العربي ويشككوا في هواه الشرقي وحب المتدينين البسطاء له ولأشعاره. أليس هو الذي أرخ للحياة داخل المخيمات وتحدث عن هوية الإنسان عندما تنحدر إلى مرتبة لاجئ، أليس هو الذي أرشف حصار بيروت يوم غطت ركام السحب الرمادية سماءها وسدت جحافل الغربان شرايينها وعروقها ومنعت الدماء من التدفق فيها، أليس هو الذي حلم بالدولة للفلسطيني ورفع غصن الزيتون تعبيرا عن تعانق الحق مع الحكمة والسلام مع العدل والمحبة مع الإنسان.
انه شاعر البلاد والعباد ومطرب الأشجار والأحجار ألم يقل يوما ما باحثا عن ضلوع فقدها يوم التهجير والتقليع:
بلادي البعيدة عني…كقلبي
بلادي القريبة مني…كسجني
لماذا أغني
مكانا ووجهي مكانا؟
لماذا أغني؟
ذلك هو محمود درويش عصفور يناجي حبيبة يراها ولكن لا يستطيع يضمها إلى صدره، ذلك هو سرحان وأحمد الزعتر وعويس وكل الشخوص التي تزن رفوف أبياته عاشق من فلسطين وشاعر على الدوام ومدافع عن عروبته وقضيته باستمرار ومحب للإنسانية في كل مكان وباحثا عن معنى في كل كتاب، ذلك هو الشاعر الفلسطيني المنتج المبهج الناقد المرتجل المحاضر ملك الإلقاء وسيد الشاشة وعريس المسرح عملاق على الدوام.
نصيحة لمحبيه وقرائه لا تقولوا عنه كان بل قولوا سوف يكون.
ما أروع ما كتب وما أتقنه عندما تفتحت قريحته الشعرية إعصارا وجوديا لا يبقي ولا يذر:
لم يتغير أي شيء
والأغاني شردتني شردتني
ليس هذا زمني
لا ليس هذا وطني
لا ليس هذا بدني
كان ما سوف يكون
رحل عاشق فلسطين وعصفورها المغرد وبقيت الحبيبة تنتظر قدوم عشاقها وفرسان أحلامها وظل الفوز بقلبها رهين صيرورة الفارس العاشق أشعر العرب.
المراجع:
محمود درويش لماذا تركت الحصان وحيدا بيروت رياض الريس للكتب والنشر الطبعة الأولى 1995
محمود درويش، مختارات شعرية، تقديم توفيق بكار ، دار الجنوب للنشر تونس
كاتب فلسفي
[1] محمود درويش لماذا تركت الحصان وحيدا بيروت رياض الريس للكتب والنشر الطبعة الأولى 1995ص 112
[2] محمود درويش، مختارات شعرية، تقديم توفيق بكار ، دار الجنوب للنشر تونس،1985ص14