بقلم الطاهر إبراهيم
ربما يكون الأهم قبل أن نعرف من قتل العميد “محمد سليمان”، أحد أشهر حراس النظام في دمشق، هو أن نعرف كيف استطاع المتربص به العبور إليه رغم الحواجز التي كانت تحيط بالقتيل وتحرسه؟ فلم يكن القتيل شخصية عادية فيترك نفسه من دون حارس ولأبواب. وهو الذي كان يعرف كيف يخترق الحواجز والأبواب، ليصل إلى خصمٍ يتهمه بأنه يتربص بنظام الحكم، فلا يمهله ليودع أهله وأطفاله. وإذا سقط أحد أعمدة السلطة، فالأعمدة الأخرى سيأتي دورها، إلى أن يتم الوصول إل الغاية المحروسة.
فقد تباينت توقعات المراقبين عمن قام بتصفية العميد “سليمان” بين مشرّقٍ ومغرب. وإذا كنا لا نسقط من حسابنا أياً من الاحتمالات التي أوردها أصحابها، كأن يكون تم الانتقام منه ومن النظام، لأن له دورا في اغتيال “عماد مغنية” الذي قُدّم عربونا لإسرائيل، لإنجاح المفاوضات معها التي كانت تجري في السر، أو أن صهر الرئيس “آصف شوكت” اتخذ القرار لحسابه، بعد أن استولى “سليمان” على كثير من صلاحيات “شوكت”.
إلا أننا نستبعد أن يكون النظام، بركنيه: الرئيس وأخيه، متورطا في تصفية العميد “سليمان” لتغييبه عن الساحة، إما إرضاء لطهران وحزب الله، أو تخلصا من مثوله في محاكمات قتلة الشهيد الرئيس رفيق الحريري، خوفا من إفشاء معلومات يريد النظام أن تموت بموته. فمن يقرأ سياسة النظام مع أعوانه المقربين له، خصوصا إذا كانوا من الطائفة، يجد أنه لا يفرط بالمقربين الذين لا يشك النظام في ولائهم، ولوتورط أحدهم في أعمال إرهابية تحرج النظام عربيا أو دوليا. وهذه سياسة ورثها عهد الرئيس بشار أسد عن عهد أبيه، فطالما بقي العنصر مواليا، فما عهد عن النظام أنه قام بتصفيته ولو تورط بأعمال إرهابية.
وكل ما في الأمر، أن النظام يبعد من تسلطت عليه الأنظار، لتورطه في إرهاب دولي، بعد أن يؤمن له حياة مالية مستقرة، كما حصل مع العميد “محمد الخولي”، الذي رأس مخابرات القوى الجوية في ثمانينيات القرن العشرين، بعدما اتهم “الخولي” بأنه وراء عمليات إرهابية استهدفت معارضين سوريين في أوروبا. ولو سلمنا أن النظام ضُيق عليه الخناق في قضية محاكمة قتلة الرئيس “الحريري” وأنه يريد تصفية العناصر التي تورطت في المؤامرة، لكان قام بتصفية “رستم غزالي”، وهو ليس من “عضام الرقبة” كما هو حال العميد “سليمان”.
ولا يقال إن هذه النظرية ـ التي تستبعد تصفية النظام للموالين له ـ ينقضها تورط النظام في تصفية رئيس الوزراء الأسبق “محمود الزعبي”، أو اللواء “غازي كنعان”، اللذين زعم أنهما انتحرا: الأول قبل موت الرئيس “حافظ أسد”، والثاني في خريف عام 2005. فنجيب بأنه لا تماثل. أما “الزعبي”، فغضب عليه النظام لأنه رفض توريث “بشار”. وأما “كنعان”، فقد توجهت إليه شكوك النظام بأنه خرج عن دائرة الموالاة، بعد أن أحست دائرة الحكم الضيقة ـ الرئيس وأخوه وصهره ـ بأنه أصبح يعمل لحسابه. لذا نقل من لبنان إلى دمشق وأسند إليه رئاسة إدارة الأمن السياسي، ومن ثم رقي إلى رتبة وزير الداخلية توطئة للتخلص منه. أما “سليمان” فلم يكن متطلعا ـ وغير مؤهل ـ للمنافسة في دائرة السلطة الضيقة في الحكم.
وقد أسقط النظام نظرية الانتحار عن “سليمان” عندما أعلنت “بثينة شعبان” مستشارة الرئيس لشئون الإعلام أنه تعرض لعملية اغتيال جارٍ التحقيق فيها. فمن قتل العميد “محمد سليمان” ـ المقرب من الرئيس وأخيه ـ إذن؟ وكيف وصل إليه؟
لقد كانت أهم الأسس التي رسخها عهد الرئيس “حافظ أسد”، أنه عمل على إرضاء معاونيه، ـ خصوصا من أبناء الطائفة ـ فلم يستبعد منهم أحدا. وقد استثنى نفسه وأسرته، وما عداها فلم يكن لأحد حصانة. غير أنه لم يلجأ إلى استئصال المقربين. وغاية ما في الأمر أنه كان يبعد من لا يستطيع الانسجام مع تعليمات الرئيس كما فعل مع شقيقه الأصغر “رفعت أسد”، حيث أخرجه من دائرة الحكم، وقصرها على أولاده.
أما ورثته، فقد فشلوا في المحافظة على جميع الأعوان. ودخل دائرة الإهمال “الحرس القدي
م” الذين خدموا مع الرئيس الراحل، وتعرض بعضهم للاغتيال من قبل خصوم النظام. وفجأة وجد هؤلاء القادة أنفسهم خارج دائرة القرار في عهد “بشار”، بينما احتكرت عائلة “مخلوف” ـ أخوال الرئيس ـ معظم “المزايا” التي وفرتها السلطة.
م” الذين خدموا مع الرئيس الراحل، وتعرض بعضهم للاغتيال من قبل خصوم النظام. وفجأة وجد هؤلاء القادة أنفسهم خارج دائرة القرار في عهد “بشار”، بينما احتكرت عائلة “مخلوف” ـ أخوال الرئيس ـ معظم “المزايا” التي وفرتها السلطة.
من يدري؟ لعل هؤلاء استيقظ لديهم حبهم القديم للسلطة بعد أن أبعدوا عنها. ولأن دائرة الحكم في مأمن من الاستهداف، بسبب الحماية المكثفة، إذن فليبدأ بما هو أسهل، بأعمدة الحماية وإسقاطها واحدا تلو الآخر. عندها إما أن ينتبه الحكم إلى خدماتهم فيضمهم إليه ثانية، أو أن يخلص أحدهم إلى الحكم نفسه.
كما أننا يجب أن لا نهمل من المعادلة من ينظر إلى أن “سليمان” قد استولى على صلاحيات غيره من المحيطين بالقيادة، فأحب هذا أن يبعده عن الطريق، ليخلو له الجو.
أخيرا، فإن أنصار “صلاح جديد” ما زالوا يتربصون بالحكم الدوائر، وربما وجدوها فرصة مواتية للتخلص من أركان العهد الجديد ـ يقوّي هذا الاحتمال، وقوع الاغتيال في منطقة لهم فيها نفوذ ـ حتى إذا ما أضعفوا الحكم بتصفية أعمدته، انقضوا عليه دفعة واحدة.
أخيرا: لعل وجود العميد “سليمان” في “طرطوس”، التي يعتبرها منطقة أمان، ما جعله يتخفف من أعباء الحراسة، وقد قيل: “من مأمنه يؤتى الحذر”!